من أسرار القرآن:
قال تعالى: *أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى* عِندَ سِدْرَةِ المُنتَهَى * عِندَهَا جَنَّةُ المَأْوَى* إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى* مَا زَاغَ البَصَرُ وَمَا طَغَى* لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكُبْرَى* (النجم:12-18).
بعد أن استهلت سورة الإسراء بالإشارة إلى رحلة رسول الله ﷺ ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، جاءت الآيات في أول سورة النجم مؤكدة على العروج برسول الله من المسجد الأقصى إلى سدرة المنتهي، عبر السماوات العُلى، حيث شاهد جنة المأوى. وراح يصعد حتى سجد بين يدي الله قائلا: “التحيات المباركات والصلوات الطيبات لِلّه”، فقال الحق عز وجل: “السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته”، فسبحت الملائكة لهذه التحية الربانية قائلة: “السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين”.
وقد جعلت هذه التحيات ليرددها المسلمون في ختام صلواتهم التي فرضها الله تعالى عليهم خمس مرات في كل ليلة ونهار. ولقد رأى رسول الله ﷺ في هذه الرحلة المباركة من آيات ربه الكبرى ما أجمله القرآن الكريم وفصلته السنة النبوية المطهرة.
وكان من ذلك لقاؤه بالأنبياء والمرسلين، ورؤيته لنعيم أهل الجنة، وعذاب أهل النار. وبعد رحلة التكريم هذه عاد رسول الله إلى بيت المقدس، حيث صلى إماما بأنبياء الله ورسله، ثم عاد إلى بيته في مكة المكرمة ليجد فراشه لا يزال دافئا.
وفي صبيحة ليلة الإسراء والمعراج جاء جبريل ليعلمه كيفية أداء الصلوات الخمس المفروضة وأوقاتها، بعد أن كان يصلي ركعتين صباحا ومثليهما مساء، متبعا سنة أبيه إبراهيم عليه السلام. ثم خرج رسول الله ﷺ ليخبر أهل مكة بما حدث معه في هذه الرحلة المباركة، وطفق المشركون يتناولون الخبر في تعجب وسخرية.
وفي أثناء ذلك تحدى بعضهم رسول الله أن يصف لهم بيت المقدس، فجلاه الله تعالى له، وطفق رسول الله يصفه لهم بابا بابا، في شئ من التفصيل، فقالوا: أما النعت فوالله قد أصاب.
وعلى الرغم من ذلك بقي غالبية المشركين من قريش عاجزين عن فهم تلك المعجزات، لأنهم قاسوها بقدراتهم البشرية المحدودة، ناسين أن قدرة الله تعالى لا تحدها حدود.
من أوجه الإعجاز في وصف القرآن الكريم لرحلة الإسراء والمعراج:
1- الدقة الفائقة في التسمية لأن الإسراء هو السفر بالليل، والمعراج هو الصعود في السماء، والعلوم المكتسبة تثبت أن جميع صور المادة والطاقة لا يمكنها التحرك في السماء إلا في خطوط متعرجة وذلك لتباين جذب الأجرام السماوية المختلفة لها، ومن هنا يصف القرآن الكريم الحركة في السماء بتعبير العروج.
2- الربط بين حرمة كل من المسجد الحرام والمسجد الأقصى الذي ندعو الله أن يعيننا على سرعة تحريره قريبا إن شاء الله، فعن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال: “سألت رسول الله ﷺ أي مسجد وضع في الأرض أول؟ قال: المسجد الحرام قلت ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى، قلت: كم كان بينهما؟ قال: أربعون سنة”.
ومن الثابت أن الكعبة بنتها الملائكة على أول جزء من اليابسة خلقه ربنا تبارك وتعالى قبل خلق أبينا آدم عليه السلام ببلايين السنين. وإذا كان المسجد الأقصى قد بني بعد بناء الكعبة بأربعين سنة، فلا بد وأن تكون الملائكة هي التي قد بنته في نفس الفترة. والجمع بين هاتين البقعتين المباركتين في رحلة الإسراء والمعراج هو تأكيد على حرمتهما، وشاءت إرادة الله أن ينبه المسلمين إلى أن حرمة المسجد الأقصى مستمدة من حرمة الكعبة المشرفة حتى يكون في ذلك استنهاض لهمتهم بضرورة المحافظة على حرمة هاتين البلدتين عبر كل زمان ومكان، والعمل من أجل حمايتهما من عدوان المعتدين إلى يوم الدين.
3- تعاظم المسافات التي قطعها رسول الله بشكل يفوق كل تصور، مما يشير إلى أن الله تعالى قد طوى له المكان، وأوقف له الزمن، وهذا ما لا تستطيعه القدرات البشرية. والعروج برسول الله دون أية واسطة مادية أو أية حماية من المخاطر الشديدة التي يتعرض لها رواد الفضاء، مما يؤكد عظمة معجزة الإسراء والمعراج، ومدى التكريم الذي ناله المصطفى ﷺ بتحقيقها له، وهو تكريم لم ينله مخلوق من قبل ولا من بعد.
4- إن في بعث كل من الأنبياء والمرسلين، وأصحاب المرائي التي شاهدها رسول الله لدليل آخر على طلاقة القدرة الإلهية الحاكمة لهذا الكون.
هذه بعض الدروس المستفادة من الاحتفال بذكري معجزة الإسراء والمعراج في كل عام تأكيدا على طلاقة القدرة الإلهية الحاكمة لهذا الكون، وعلى مقام خاتم الأنبياء والمرسلين عند رب العالمين، فصل الله وسلم وبارك عليه والحمد لله رب العالمين.