دخلت الانسانيّة منذ عقود عصر المعلوماتية و قطعت أشواط كبرى في صناعة المعلومة و في كيفية تقديمها سرعة تداولها و طرق استغلالها و أتاحت وسائل التواصل الاجتماعي مساحات يصعب التحكّم فيها بالطرق الكلاسيكية من خلال الرقابة المباشرة و من خلال سنً التشريعات … هيً بكلّ بساطة هيّ حرب غير معلنة لتفكيك المجتمعات و الدًول و تغيير الهويًات و القيم في إطار استراتيجيات الدًول الكبرى لإخضاع الدًول شعوبا و أنظمة و لسنا في حاجة للتذكير بدور شبكات التواصل الاجتماعي في إسقاط الأنظمة و في في نشر التوتًر و الفوضى في عدًة دول عربيًة .
هذه الحرب لا تتطلًب جيوشا و لا عتاد بقدر ما تتطلًب آلة إعلامية قادرة على صناعة رأي عام و توجيهه و على المحافظة على النموذج المجتمعي في عاصفة التحوّلات المفتعلة ، هذا الدّور لا يمكن أن يظطلع به إلاّ الإعلام العومي عبر تمكينه من افتكاك المساحات اللازمة في الفضاء العام و فرض حرفيته و مصداقيته في الداخل و الخارج .
بكلّ أسف تراجع الاعلام العمومي في السنوات الأخيرة تراجعا رهيبا تاركا مساحاته و معاقله للاذاعات و القنوات الخاصًة و التي تختلف أهدافها و أجندتها عن الدًور الوطني و الذي من المفترض أن يكون اختصاصا أصليًا للاعلام العمومي …
اليوم تمّ التخلّص من المجتمع السياسي الذي كان يتحرًك عبر الاذاعات و القنوات الخاصّة و يتحكًم فيها و انتهت برامج الصراخ السياسي و تمّ غلق تلك الأبواق المأجورة و لكنّ تلك المساحات بقيت فارغة فتحرًكت تلك الأبواق من خلال الإعلام البديل الذي تتيحه المعلوماتية و انتشرت التفاهة و الابتذال لتمزيق النسيج المجتمعي و تغيير نمط الوعي و بدأ هذا النمط الاعلام الاصطياد في المياه العكرة و محاولة ضرب الاستقرار في تونس من خلال بثّ الاشاعات و ربط ما يحصل في المنطقة بتونس و في هذا و ذاك أين الاعلام العمومي ليوضًح الرؤية للجميع و يحارب هذه الفقاقيع المنتشرة في كلّ مكان .
ممّا لا شكّ فيه أنّ داخل الاعلامي العمومي بكلّ أجزاءه من ينحاز للدّولة الوطنية و يدافع عن الشخصية التونسيّة و النسيج المجتمعي لكنّ ضعف الامكانات و التمويل يحول دون ذلك و ذلك نلاحظه من خلال حجم التمويلات و عقود الاستشهار و الأجور في الاعلام الخاص مقارنة بالاعلام العمومي و هنا لا بدّ من تدخًل حاسم من السًلطة في أعلى مستوياتها بعد أن أصبحت المسألة واضحة و أصبح الاصطفاف واضحا من ذلك أنّ مؤسًسات عمومية تموًل اذاعات و قنوات خاصًة و تحجم عن تمويل الاعلام العمومي متناسية دورها الوطني و الذي تمّ بعثها من أجله و الأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى.
توازيا مع ذلك قنوات خاصًة تنشط في تونس و تجني أرباحا طائلة من العملة الصًعبة من قنواتها على يوتوب دون يدخل دولارا واحدا للسوق المالية المحليّة و التي هيّ في أمسً الحاجة للعملة الصًعبة .
إنّ معركة الاعلام هيً معركة أمن قومي لحماية الدّولة و المجتمع من أخطار الاعلام البديل و المؤامرات التي تحاك بين بقايا عشرية الخراب و الأبواق المأجورة من أجل استعادة حالة الفوضى العامّة التي كانت سائدة .
لا بدّ للتلفزة الوطنية و للاذاعة الوطنية و أن تستعيد ريادتها و مصداقيتها و أن تلعب دورها في نشر المعلومة الصحيحة و في تحليلها و في صناعة الرأي العام و حمايته من كلّ الزوائد المشبوهة و لا بدً من حماية الذوق العام من التفاهة و السطحية المعروضة في السوق الافتراضية.
و في هذا السياق تجدر الاشارة إلى أنّ مشروع إحداث الوكالة الوطنية للتصرف في الإشهار العمومي والاشتراكات، (عدد 3/2019) الذي كان مطروحًا وبقي طي النسيان دون تنفيذ و لم يتمّ تفعيله إلى اليوم كما نلاحظ غياب التشريعات و المراقبة للمرابيح المتأتية من يوتوب و انستڤرام و تيك توك … و غيرها هذه الاموال و التي لا يتمً خلاص الآداء المستوجب عليها من قبل الفنانين و صنًاع المحتوى زيادة على خطر ارتباطها بالتبييض و غير ذلك .
لا يكفي التحذير من المنصًات المشبوهة بل على الاعلام العمومي إنتاج مادّة رفيعة بالمقاييس العالمية و هادفة تصبً في مصلحة الدًولة و المواطن على حدّ سواءا و هذه مسألة لا تحتمل التأخير و التأجيل و لا أعتقد أنّ المسار الحالي سيتردًد في وضع إمكانات الدًولة وراء الاعلام العمومي الذي تخلًى عن دوره منذ بداية عاصفة التحوّلات و آن الأوان أن يستعيدها.