أخبار وطنية

الدولة الوطنية في مواجهة التحديات: من أفق الأزمة إلى مشروع التأسيس الجديد

الدولة الوطنية في مواجهة التحديات: من أفق الأزمة إلى مشروع التأسيس الجديد
بقلم: حازم القصوري – محامٍ وخبير في الشؤون السياسية والأمنية

تشهد الدولة الوطنية في العالم العربي اليوم حالة من التصدّع البنيوي، نتيجة تراكمات سياسية واقتصادية واجتماعية، تزامنت مع تحولات إقليمية ودولية غير مسبوقة. ولئن كانت هذه الأزمات متعددة الأسباب، فإن القاسم المشترك بينها يتمثل في فقدان التوازن بين متطلبات السيادة، ضرورات العدالة الاجتماعية، وشروط التنمية المستدامة.

في صلب هذا التحدي، تبرز الحاجة إلى ترسيخ الاستقرار السياسي، ليس بمعناه الظرفي أو الأمني الضيق، بل كاستقرار مؤسساتي قائم على الشرعية، المشاركة، والحوكمة الرشيدة. ذلك أن مشروعية السلطة لا يمكن أن تُستمد من التغوّل أو الاستقطاب، بل من التوافق الوطني والإدارة الحكيمة للتعدد.

ومن جهة أخرى، فإن سيادة القانون تُمثل العمود الفقري للدولة الحديثة. فاستقلال القضاء، وتحديث المنظومة التشريعية، وضمان الحقوق والحريات، كلها عناصر تكرّس العدالة كمبدأ مؤسس للعقد الاجتماعي الجديد. فالمواطن لا يستعيد ثقته في الدولة إلا حين يشعر أن القانون يحميه، لا يُستخدم ضده.

الجانب الاقتصادي بدوره يشكّل رهانًا محوريًا في بناء الدولة الوطنية. فلا يمكن الحديث عن استقلال القرار السياسي دون استعادة السيادة الاقتصادية، عبر تنويع مصادر الإنتاج، تشجيع الاستثمار الوطني، وتأمين الأمن الغذائي والطاقي. كما أن الخدمات العمومية – وعلى رأسها التعليم والصحة – يجب أن تعود إلى صلب وظيفة الدولة، لأنها الضامن الأول للعدالة الاجتماعية والمساواة بين المواطنين.

ولا يكتمل بناء الدولة دون تصور شامل لمفهوم الأمن. ففي زمن تتعاظم فيه التهديدات المركبة – من الإرهاب إلى الأمن السيبراني، مرورًا بالتصحر وتغير المناخ – لم يعد مقبولًا أن يُختزل الأمن في بعده العسكري. بل أصبح لزامًا تبنّي مقاربة شاملة تُدمج الأبعاد الاقتصادية، البيئية، والرقمية، ضمن استراتيجية استباقية طويلة المدى.

كما أن القانون، بوصفه الإطار المنظم للعلاقات داخل الدولة، لم يعد صالحًا إذا ظل في حالة جمود. فالمراجعة التشريعية ليست ترفًا، بل ضرورة تفرضها التحولات المجتمعية والاقتصادية. وتقتضي هذه المراجعة مقاربة عقلانية تُعيد الاعتبار لمفهوم “القانون العادل”، القائم على التوازن بين الحقوق والواجبات، بين الحريات والنظام العام.

وفي قلب هذه المعادلة، تظل المصلحة الوطنية هي البوصلة الوحيدة القادرة على توجيه السياسات العمومية والخارجية. إذ لا معنى لأي إصلاح لا يخدم الصالح العام، ولا مشروعية لأي قرار لا يحمي سيادة الدولة ووحدة ترابها. من هذا المنطلق، تبرز أهمية دبلوماسية فعالة وذات رؤية استراتيجية، قادرة على تموقع الدولة ضمن خارطة التوازنات الجيوسياسية الجديدة، بما يضمن استقلال القرار الوطني وتكريس الشراكات الندية لا التبعية.

إن مشروع الدولة الوطنية، كما نراه اليوم، لم يعد مجرد عنوان نظري، بل استحقاق تاريخي يفرض نفسه بإلحاح. إنه مشروع يقوم على إعادة بناء الثقة بين الدولة ومواطنيها، على قاعدة العدالة، المشاركة، والكفاءة. إنه دعوة إلى تجاوز منطق التسيير اليومي نحو هندسة استراتيجية تؤسس لمرحلة جديدة من السيادة الحقيقية، والتنمية الشاملة، والعدالة الاجتماعية.

فإما أن نعيد تأسيس الدولة وفق هذا الأفق الجديد، أو نتركها رهينة التآكل البطيء والاختراقات المتعددة. ولعل أولى خطوات الإنقاذ تكمن في الاعتراف بعمق الأزمة، ثم الجرأة في مواجهة أسئلتها الكبرى، لا الالتفاف حولها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى