بقلم سليم العقربي
في قلب العاصمة التونسية، وعلى مرأى من مؤسسات الدولة، تتعرض الأملاك العقارية العامة والخاصة إلى نهب منظم تقوده شبكات سطو مدعومة بشركات وهمية، ووثائق مزورة، وتواطؤ إداري خطير. آلاف الشقق والمباني، التي كانت على ملك أجانب أو لا مالك معروف لها منذ عقود، تحوّلت إلى غنيمة موزعة بين المنتفعين، في ظل صمت الشركة العقارية للبلاد التونسية (SNIT) التي كان يُفترض أن تكون الحارس الأول لهذه الأملاك.
مهمة SNIT الأساسية تتمثل في التعرف على الأملاك غير المستغلة، وإعادة تأهيلها لفائدة الدولة أو المواطن، غير أنّ الواقع يكشف عجزًا خطيرًا في المتابعة، بل وتورطًا صريحًا في التواطؤ. أراضٍ وشقق تم التفريط فيها خلسة، وأخرى وقع إسنادها بطرق غير قانونية، عبر الرشوة أو التحايل أو استغلال النفوذ.
برزت خلال السنوات الماضية شركة بلجيكية مجهولة الهوية تتصرف في مئات الشقق وسط العاصمة، دون أن يتوفر أي سجل رسمي يحدد مالكيها أو صلاحياتها القانونية. إلى جانبها ظهرت أسماء وهمية وشركات قشرية تتلاعب بمصير المواطنين، وتبيع ما لا تملك، وسط غياب تام للرقابة. الأسوأ من ذلك أن بعض المحامين والمهندسين والأطباء باتوا يظهرون كمالكين لعدة شقق داخل نفس المباني، في مشهد يثير الريبة ويطرح أكثر من سؤال.
لقد تحوّل المشهد العقاري في العاصمة إلى مسرح واسع للاحتيال. مواطنون اشتروا شققًا بوثائق ثبت لاحقًا أنها مزورة، خسروا أموالهم ووجدوا أنفسهم مطرودين إلى الشارع، بينما صدرت أحكام قضائية لفائدة أطراف لا علاقة لهم بالملكية الحقيقية، اعتمادًا على عقود مدلسة. كل ذلك في ظل صمت مطبق من SNIT، التي تخلّت عن دورها واكتفت بموقع المتفرّج، إن لم نقل الشريك السلبي في الجريمة.
تواترت المعطيات حول تواطؤ إداري داخل الشركة، ووجود موظفين سابقين وحاليين سهلوا عمليات التفويت والتسجيل غير القانوني، وأخفوا ملفات كاملة من الأرشيف الرسمي. هذه الشبكات لا تعمل بشكل فردي، بل هي جزء من منظومة فساد متشابكة تمتد إلى مصالح أخرى، وتشمل أطرافًا في الإدارة ورجال قانون متورطين فى العديد من عمليات التدليس
إنّ ما يحصل اليوم ليس مجرد إخلال إداري، بل جريمة كاملة الأركان تمسّ السيادة العقارية للدولة. العقارات العامة ملكٌ للشعب، والتفريط فيها بهذا الشكل يهدد أحد أركان العدالة الاجتماعية. فكيف يمكن الحديث عن إصلاح اقتصادي أو عدالة عمرانية، والدولة نفسها عاجزة عن حماية أملاكها؟
لقد آن الأوان لفتح هذا الملف بكل شجاعة وشفافية، واتخاذ إجراءات فورية تشمل:
فتح تحقيق شامل في ملفات التفويت والتحيل العقاري،
مراجعة كل العقود المشبوهة وإبطال ما ثبت تزويره،
تفكيك الشركات الوهمية وإحالة المسؤولين عنها إلى القضاء،
محاسبة المتورطين من داخل SNIT وكل من تستر أو سهّل هذه الانتهاكات،
وإعادة العقارات المستولى عليها إلى ملك الدولة أو أصحابها الشرعيين.
إنّ استعادة السيطرة على الأملاك المنهوبة ليست مسألة تقنية أو قانونية فقط، بل هي معركة سيادة بامتياز. فلا دولة قوية دون إدارة عقارية قوية، ولا عدالة ممكنة دون حماية حقّ المواطن في المسكن والأرض.
هذا الملف ليس تفصيلاً إداريًا. إنه اختبار حقيقي لقدرة الدولة على حماية ثروات شعبها، ووضع حدّ لعقود من الفوضى والتسيب. فإما أن تنتصر الدولة لقوانينها، أو تترك العاصمة فريسة للمافيات، ومواطنيها ضحايا للضياع.
زر الذهاب إلى الأعلى
هناك الاف الشقق المهجورة ومتداعية للسقوط والدولة عجزت عن ترميمها ثم بيعها او كراؤها.
أليس من الأفضل التفويت فيها ولو بطرق ملتوية إذ لا يوجد في غالب الأحيان مالك واضح لهذه الشقق.