فتحت الحرب الحالية بين إيران وإسرائيل التي تصاعدت بشكل مباشر منذ 13 يونيو فصلًا جديدًا من التفاعلات السياسية والنفسية في المنطقة.
فبعيدًا عن أبعادها العسكرية، تمثل هذه الحرب لحظة استراتيجية نادرة تسعى فيها طهران إلى إعادة صياغة صورتها لدى الرأي العام العربي، مستغلة الرمزية الواسعة للصراع مع إسرائيل، ومحاولة تهميش سجلها الثقيل في التدخلات الداخلية والنزاعات الطائفية.
في ظل انقسام عربي عميق، وتراجع الاهتمام الرسمي بالقضية الفلسطينية، تبدو طهران وكأنها تسعى لملء هذا الفراغ عبر تصدير نفسها كقوة مركزية في “محور المقاومة”، مدفوعةً بتصعيدها ضد إسرائيل، ومُحمّلةً بخطاب تعبوي يستهدف إعادة تموضعها في الوعي الجمعي العربي.
منذ عقد على الأقل، ارتبط اسم إيران في أذهان ملايين العرب بسياقات دامية منها دعم النظام السوري ضد شعبه، تأسيس مليشيات مذهبية في العراق، تمكين الحوثيين في اليمن، وترسيخ هيمنة حزب الله في لبنان على حساب الدولة. كل هذه الملفات كوّنت صورة لطهران باعتبارها قوة فوضى مذهبية أكثر من كونها فاعلًا تحرريًا.
لكن المواجهة الأخيرة مع إسرائيل جاءت لتخلط الأوراق؛ فعبر إطلاقها مئات الصواريخ والطائرات المسيّرة، وتوجيهها خطابًا مباشرًا ضد تل أبيب وواشنطن، وضعت إيران نفسها مجددًا في موقع “المُقاوِم” في نظر جماهير عربية واسعة وسائل الإعلام التابعة لها، والمنصات المرتبطة بها، قدّمت الحرب كمواجهة أخلاقية وثقافية، وليست فقط عسكرية، بينما جرى تغليف كل فعل إيراني بمفردات “الكرامة” و”الردع” و”الوقوف مع فلسطين”.
تاريخيًا، لم تُعرف إيران بأنها في مقدمة القوى المشتبكة مباشرة مع إسرائيل
فحرب تموز 2006 التي خاضها حزب الله كانت آخر محطة صادمة للجبهة الإسرائيلية الشمالية. لكن تصاعد الحرب في غزة أواخر 2023، وتورط إسرائيل في جبهات متعددة، خلق ظرفًا جديدًا أتقنت طهران توظيفه.
فمن خلال استعراض رمزي للقوة، والتلويح بإغلاق مضيق هرمز، وتهديد مصالح واشنطن، أعادت إيران تسويق نفسها كلاعب إقليمي يواجه الهيمنة الغربية، في لحظة بدا فيها المشهد العربي ضعيفًا ومفتتًا.
المفارقة، أن الخطاب الإيراني الجديد لا يُبنى على إنجازات عسكرية حاسمة (إذ تم اعتراض معظم الصواريخ الإيرانية)، بل على تحويل رمزية التصعيد إلى سردية انتصار سياسي أي أن مجرد الاشتباك العلني مع إسرائيل – حتى إن لم يغيّر شيئًا في الواقع الميداني – يُعتبر كافيًا لدى بعض الجماهير لإعادة الاعتبار لدور طهران.
جزء كبير من نجاح إيران في إعادة تقديم نفسها لا ينبع من قوتها الذاتية، بل من هشاشة المقاربة العربية الرسمية.
ففي الوقت الذي تبنت فيه عدة عواصم خليجية أو مغاربية مقاربات براغماتية حيال إسرائيل، بدا صوت طهران أكثر حدة، حتى لو كان محمّلاً بالتناقضات.
لقد وجدت إيران فراغًا في المشهد، وملأته بخطاب تعبوي مستند إلى مرجعيات دينية وسياسية وأخلاقية.
وسائل الإعلام الإيرانية – الرسمية وشبه الرسمية – تبث على مدار الساعة مشاهد لصواريخ تُطلق نحو إسرائيل، وتغطيات من بيروت وصنعاء وبغداد لغضب شعبي “عابر للحدود”.
الحسابات الرقمية التي تديرها طهران أو حلفاؤها تنشر مقاطع توثق “الرد الإيراني التاريخي”، وتهاجم الحكومات العربية “الصامتة” وكل ذلك ضمن ما يمكن تسميته بـ “حرب صور وسرديات” تهدف لتقويض الانتقادات المتراكمة على سجل إيران، لا سيما بين الشباب العربي.
لكن التأثير لا يتوقف عند الإعلام. فإيران تعتمد أيضًا على شبكات دينية ومذهبية وإيديولوجية لزرع سرديتها ومراكز دراسات ومؤسسات دينية وقنوات مقاومة تبث مواد تُبرر “مشروع الولي الفقيه” كامتداد لمشروع “التحرير”، وتُربط طهران بشكل مباشر بـ “مستقبل القدس” وحتى جماعات قومية ويسارية عربية باتت تتبنى خطابًا متعاطفًا مع الموقف الإيراني، على اعتبار أن كل من يقاوم إسرائيل يجب أن يُدعم، ولو مؤقتًا.
مع ذلك، يبقى السؤال: هل يمكن لمجرد التصعيد العسكري أن يُنسي الشعوب العربية حقيقة أن إيران دعمت أنظمة قتلت شعوبها؟ هل يمكن لحرب خاطفة أن تُمسح من خلفها ذاكرة اليمنيين والسوريين واللبنانيين والعراقيين؟ أم أن طهران تراهن على فقدان الذاكرة السياسي، وعلى ميل الجماهير إلى الرمزيات السريعة في ظل غياب بدائل واضحة؟
ليس واضحًا إن كانت إيران قادرة فعلًا على تثبيت الصورة التي تُروّج لها اليوم فالحرب مع إسرائيل، مهما بلغت رمزيتها، تبقى محدودة التأثير ما لم تُترجم إلى دعم حقيقي للشعوب، أو تحوّل في سياسات طهران تجاه جيرانها. وحتى الآن، لا يبدو أن إيران مستعدة لمراجعة أدوارها في اليمن أو سوريا أو لبنان، أو للتخلي عن خطابها المذهبي.
ما يظهر حتى اللحظة، هو أن إيران تمسك بلحظة إعلامية ونفسية مهمة، تحاول عبرها إعادة تعريف ذاتها في العيون العربية، لكنها لا تغيّر جوهر سلوكها في العمق فإذا ما توقفت المواجهة أو هدأت، سيعود الجدل إلى سابق عهده.
طهران قوة إقليمية تتقن الاستفادة من الأزمات، لكنها لا تزال جزءًا أساسيًا من أزمات المنطقة نفسها وصراعاتها وهي من تعمق الصراع المذهبي ولا غيرها .
زر الذهاب إلى الأعلى