بقلم: سليم العقربي
في لحظة مفصلية من تاريخ تونس، وبعد عقد كامل من التيه السياسي والانهيار الاقتصادي، قرر الشعب أن يسترد زمام مصيره، فكان تحرك 25 جويلية 2021 إيذانًا بنهاية مرحلة وبداية أخرى. لكنّ هذا القرار السيادي لم يُعجب كثيرين، لا في الداخل ممن فقدوا امتيازاتهم، ولا في الخارج ممن اعتادوا أن تكون تونس ساحة نفوذ مفتوحة بلا شروط. ومن بين أولئك الذين عارضوا هذا المسار، لم يكتف البعض بالنقد، بل اختاروا لعب دور “المندوبين” في الخارج، وعلى رأسهم كمال الجندوبي، الذي تحوّل من ناشط حقوقي إلى أداة من أدوات الضغط الأجنبي على تونس.
كمال الجندوبي، الذي طالما قُدِّم كصوت ديمقراطي مستقل، تبيّن اليوم أنه مجرد واجهة لمنظومة متكاملة كانت تعيش على تركة ما بعد 2011، وتقاسمت الكعكة مع حركة النهضة، وساهمت – بصمتها أو بتواطئها – في خراب الدولة. خلال العشرية السوداء، حين كان الإرهاب يتغوّل، والفساد يستشري، والشباب يُسفَّر إلى بؤر التوتر، لم نسمع صوت الجندوبي يُندد، ولم نره يقف في وجه التحالفات المشبوهة. بالعكس، كان حاضرًا في مشهد يُوزَّع فيه النفوذ بين الإخوان ومنظمات المجتمع المدني الممولة أجنبيًا، في ما يشبه صفقة سياسية أُبرمت خلف ظهر الشعب.
لكن بعد أن سقط هذا التحالف، وبدأت الدولة تستعيد أنفاسها، خرج الجندوبي من صمته، لا ليعتذر، بل ليلعب دور المعارض من الخارج. يتنقل بين باريس وبروكسل، يحمل تقارير سوداوية، يُجمّلها بخطاب حقوقي، لكنه لا يخفي هدفها: الضغط على تونس، والتضييق على مؤسساتها، والتشكيك في مسارها، والدعوة صراحةً إلى فرض عقوبات إن لزم الأمر.
هذا السلوك ليس ممارسة ديمقراطية، بل خيانة ناعمة مغلفة بكلمات نبيلة. حين يطلب تونسي من دوائر القرار الأوروبي أن تُعاقب بلاده ماليًا أو دبلوماسيًا، لمجرد أنه يختلف مع خياراتها السياسية، فهو لا يُدافع عن الحقوق، بل يُعادي الشعب. حين يُنصّب نفسه ممثلًا لتونس أمام الاتحاد الأوروبي دون تفويض شعبي، ويُلقي المرافعات ضد بلاده كأنها خصمٌ سياسي، فهو لا ينتمي إلى مدرسة النضال، بل إلى منظومة الوصاية التي استباحت قرارنا منذ عقود.
وما يزيد الأمر خطورة، أن الجندوبي لا يتحرك فرديًا، بل هو جزء من شبكة واسعة، تضم إعلاميين، وسياسيين سابقين، ومنظمات ممولة، جميعهم التقوا على هدف واحد: إفشال المسار الجديد، ولو بالاستنجاد بالخارج. هؤلاء لم يهضموا فكرة أن الشعب قد استعاد ثقته في دولته، ورفض وصايتهم النخبوية، فقرروا معاقبته عبر حلفائهم في أوروبا.
لكن ما لا يدركه الجندوبي وأمثاله، هو أن الشعب التونسي تغيّر. هو اليوم أكثر وعيًا بمن تاجروا بحريته وكرامته، وأكثر صرامةً في فرز الوطني من المأجور. والتاريخ سيُسجّل أن في لحظة إنقاذ وطني، كان هناك من اختار أن يكون مندوبًا للاستعمار الناعم، لا نصيرًا للسيادة.
تونس اليوم لا تحتاج إلى دروس من كمال الجندوبي ولا من المؤسسات التي يمثلها، بل تحتاج إلى دعم أبنائها الحقيقيين، ممن اختاروا الوقوف في الداخل، مهما كان الاختلاف، لا أولئك الذين باعوا الاختلاف في بورصة المنظمات الدولية.
زر الذهاب إلى الأعلى