بقلم: سليم العقربي
منذ أن وطئت أقدام الاستعمار الفرنسي أرض تونس، لم يكن هدفه احتلال الأرض فحسب، بل احتلال الذاكرة، وتشويه التاريخ، وقطع الشعوب عن جذورها. كان الاستعمار يعرف جيدًا أن الهيمنة الثقافية أخطر من الهيمنة العسكرية، فراح يكتب لنا تاريخنا كما يريده هو، لا كما كان.
من قرطاج إلى دقة، من الجمّ إلى سبيطلة، أعيدت كتابة الحكاية بمداد فرنسي، وقُدمت لنا على أنها “العلم” و”الحقائق التاريخية”، بينما هي في جوهرها خديعة استعمارية ممنهجة، تم تنفيذها بعناية فائقة، وبمساعدة خونة الداخل، من نخب أكاديمية ومؤسسات ثقافية باعت ضميرها، واستباحت الأرض والذاكرة لصالح المشروع الكولونيالي. لقد تم تقديم قرطاج، تلك الإمبراطورية المتوسطية العظيمة، على أنها صفحة من الماضي طُويت وانتهت، وجاء الرومان ليبنوا “الحضارة” على أنقاضها. هكذا ببساطة.
تم اختزال قرطاج في جملة واحدة: “دُمرت سنة 146 قبل الميلاد”، وكأن آلاف السنين من الإبداع البشري والثقافي والسياسي لا تساوي شيئًا. لا يُذكر حنبعل إلا نادرًا، ولا تُدرَّس عليسة إلا كقصة “أسطورية” هامشية، بينما تُملأ كتب التاريخ بصور أوغسطس وسيبتيموس و”روما العظيمة”.
المدن التونسية العريقة، من دقة إلى الجم، نُسبت إلى روما وكأنها من صُنعها، رغم أن تاريخها أقدم من الوجود الروماني، ومكونها المعماري يحمل بصمة بونية أمازيغية واضحة، أبدعها أجدادنا قبل أن تصل الجحافل الرومانية. لكن أخطر من التزوير نفسه هو استمراره إلى اليوم، رغم خروج الجيوش الفرنسية.
فقد ترك الاستعمار أبناءه في الداخل، يُكرّسون روايته، ويدافعون عنها باسم “العلم” و”المنهج”، ويتهمون من يُطالب بإعادة الاعتبار للتاريخ الحقيقي بـ”الشعبوية” و”النزعة القومية”. نرى اليوم نخبًا جامعية تُدرّس التاريخ الروماني في الجامعات وتُقيم له الندوات، بينما تُهمل التراث البوني وتعتبره مادة ميتة أو خرافية.
نرى إعلامًا يحتفي بالمعمار الروماني، ويستعمل صور المدرج في الجم كشعار وطني، ولا أحد يتحدث عن المدن البونية التي لم يُكتشف أغلبها بعد. نرى متاحف تتفاخر بالفسيفساء الرومانية، بينما تُخزن الآثار البونية في الأقبية أو تُعرض في زوايا مهملة.
كل ذلك ليس صدفة، بل امتداد مباشر لمشروع الاستعمار الثقافي الفرنسي، الذي لا يزال قائمًا بأشكال جديدة، ويمارس هيمنته عبر “التاريخ الرسمي”، والمناهج المدرسية، والسياسات الثقافية العقيمة. الشعب التونسي لم يطلب أن يكون تلميذًا عند أوغسطس، ولا تابعًا لأباطرة روما.
بل هو وريث قرطاج، ابن عليسة وحنبعل، ابن الأرض التي زرعت الزيتون وشيدت المرافئ وفتحت آفاق المتوسط قبل أن تُخلق روما نفسها. هذا الشعب يستحق أن يعرف تاريخه الحقيقي، أن يُدرّس أبناءه حضارته كما كانت، لا كما أرادها المستعمر. إن معركة استرجاع التاريخ ليست ترفًا فكريًا، بل شرط ضروري لكل مشروع سيادة. لا يمكن أن تبني دولة مستقلة بهوية مزورة. لا يمكن أن تحمي وطنًا من التبعية وأنت تُدرّس أبناءك أن المجد بدأ مع الغزاة.
إن ما يحصل في معهد التراث، وفي أقسام التاريخ، وفي الإعلام الثقافي، هو تواطؤ مباشر مع المشروع الاستعماري. هو استمرار للاحتلال بصيغة “الخبير” و”الأستاذ” و”المختص”، ممن يدافعون عن رواية باريس أكثر مما فعل الفرنسيون أنفسهم.
هؤلاء خانوا قرطاج، خانوا الزيتونة، خانوا ذاكرة الشعب التونسي، ويجب أن يُحاسَبوا أخلاقيًا وتاريخيًا. آن الأوان لإعادة كتابة التاريخ التونسي، لا بروح انتقامية، بل بروح سيادية حقيقية تعيد للشعب ذاكرته، وتمنحه الوعي العميق بجذوره الحضارية.
نحن لا نرفض العلم ولا ننازع الحقيقة، بل نرفض الكذب باسم العلم، والتزوير باسم “الحياد الأكاديمي”. نريد تاريخًا تونسيًا تُكتبه العقول الحرة، لا العقول التابعة. نريد أن نُعيد الاعتبار لقرطاج، لا كضحية، بل كأصل للحضارة المتوسطية، كمصدر للقوة والهوية.
نريد أن نعلم أبناءنا أن حضارتهم لم تبدأ مع الاستعمار، بل انتهكت به. كفى تزويرًا. كفى عبودية فكرية. كفى تمجيدًا لجلادينا. آن لقرطاج أن تعود من تحت الركام.
آن لتونس أن تتحرر، لا فقط من الاستعمار العسكري الذي رحل، بل من الاستعمار الثقافي الذي بقي وتغلغل في كل شيء: في المدارس، في المتاحف، في العقول. إذا أردنا أن نبني مستقبلًا لتونس، فلنبدأ من قرطاج.
زر الذهاب إلى الأعلى