Centered Iframe
أخبار وطنية

الدكتور الفرجاني لـ«CNN الاقتصادية»: الوقت قد حان لتجاوز الكلمات، التعاون لم يعد خياراً بل ضرورة ملحّة

الدكتور مصطفى الفرجاني وزير الصحة التونسي يكتب مقالاً لـ«CNN الاقتصادية» بعنوان: من تونس إلى المنطقة.. آن الأوان أن ينتقل نهج “الصحة الواحدة” من الأقوال إلى الأفعال،  وهذا نص المقال:

 يدفعنا شعور عميق بالإلحاح، وإدراك واضح لمسؤوليتنا المشتركة، فلم تعد التهديدات الصحية التي تواجه منطقتنا مجرد احتمالات بعيدة أو حوادث فردية؛ بل أصبحت واقعاً ملموساً، لقد شهدنا على مدى السنوات الماضية تداعيات الأوبئة المدمرة، والتفاقم الصامت لمقاومة مضادات الميكروبات، والتأثيرات المتسارعة لتغير المناخ، بالإضافة إلى التآكل المقلق لتنوعنا البيولوجي، وهذه التحديات ليست منفصلة، بل هي متشابكة ومعقدة، تتجاوز الحدود والقطاعات، وتتطلب منا استجابات شاملة ومنسقة، وذات نظرة مستقبلية تضمن لنا صحة أفضل للجميع.

 ومن هذا المنطلق، لم يعد بوسع نهج “الصحة الواحدة” أن يظل مجرد طموح نظري أو فكرة فنية تُناقش في المنتديات المتخصصة فحسب، بل يجب أن يصبح حجر الزاوية في مقاربتنا للأمن الصحي في القرن الحادي والعشرين، فهو نهج يقر بالعلاقات الجوهرية بين صحة الإنسان وصحة الحيوان واستقرار البيئة والأنظمة الغذائية، وقد تحوّل هذا الاقتناع المشترك في تونس إلى واقع ملموس من خلال تبني “إعلان قرطاج للصحة الواحدة”، الذي حظي بتأييد طوعي من جميع الدول المشاركة.

هذا الإعلان لا يكتفي بتحديد الرؤية، بل يرسم خارطة طريق طموحة ومرنة في آنٍ واحد، تراعي خصوصية كل دولة وتنوعها، وفي الوقت ذاته تشجع على العمل المشترك، ويرتكز على أربعة محاور رئيسية تشمل: الإنذار المبكر والرصد المشترك، التكامل في حملات التطعيم، تبادل البيانات الصحية والبيئية بشكل منظم، وبناء القدرات المؤسسية القوية، ومع أهمية هذا الإعلان، إلا أن التصريحات وحدها لا تكفي؛ فقد علمتنا الأزمات العالمية الأخيرة أن تحويل الالتزامات إلى نتائج ملموسة يتطلب إرادة سياسية مستمرة، واستثماراً طويل الأجل، وتعاوناً إقليمياً فعّالاً.

ومن هذا المنطلق، فإن توفر الإرادة السياسية اليوم، إلى جانب الالتزام الواضح بالتعاون المشترك، يمنحنا أرضية صلبة للمضي قدماً، وأرى أن إعلان قرطاج يشكّل أساساً سياسياً متيناً لدفع هذا التوجه إلى الأمام، لكن الوقت قد حان لتجاوز الكلمات؛ فالاختبار الحقيقي يكمن في كيفية تحويل هذه الأطر إلى واقع عملي، وهو ما يستدعي تمكين الحكومات، بدعم من المنظمات الدولية، من العمل معاً بشكل أكثر تنسيقاً وتكاملاً، لمواجهة تحديات “الصحة الواحدة” المستقبلية، والوقاية من الأوبئة قبل بدايتها، فالتحدي لا يكمن في وضع الاستراتيجيات فحسب، بل في تنفيذها بفعالية.

وفي هذا السياق، لا يمثل المؤتمر الإقليمي الأول للصحة الواحدة بمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، الذي استضافته تونس مؤخراً، نقطة نهاية، بل بداية لمسار استراتيجي طويل الأمد، ونحن ملتزمون بإنشاء مركز إقليمي لـ”الصحة الواحدة” في تونس، ليكون منصة فاعلة لمنطقة شمال إفريقيا وشرق المتوسط، وسيتولى هذا المركز تعزيز الحوار، وتيسير تبادل الخبرات، وتقوية أنظمة الرصد والإنذار، إلى جانب دعم جهود البحث والتدريب المشترك بين الدول.

وقد أفرزت النقاشات التي شهدها المؤتمر أولويات إقليمية واضحة، تمثّلت في تحسين منظومات الرصد المشترك للأمراض الحيوانية المنشأ والعابرة للحدود، والتصدي لمقاومة مضادات الميكروبات من خلال تنسيق وثيق بين قطاعات الصحة والزراعة والبيئة، بالإضافة إلى تعزيز سلامة الغذاء وأمنه، وفهم آثار تغيّر المناخ على الصحة العامة والتعامل معها، خصوصاً في البيئات الهشة، وتمثل هذه القضايا تحديات مترابطة وعميقة لا يمكن معالجتها بفعالية إلا من خلال كسر الحواجز المؤسسية، وبناء الثقة بين الجهات المعنية، وتعزيز التعاون متعدد القطاعات.

وفي ضوء هذه التحديات، تبرز الحاجة الملحة للانخراط في حوار جاد حول الاستثمار في نهج “الصحة الواحدة”، فبينما يركّز البعض على الجوانب العلمية والتقنية، فإن التحدي الأكبر في هذه المرحلة يتمثل في تأمين تمويل كافٍ ومستدام لهذه الأجندة الطموحة، ويكمن تعقيد “الصحة الواحدة” في كونه يشمل قطاعات متعددة -كالصحة البشرية، وصحة الحيوان، والزراعة، والبيئة- لكل منها أولوياته وهياكله واحتياجاته التمويلية الخاصة، وعلى الرغم من أن فوائد الاستثمار في هذا النهج واسعة وطويلة الأمد، فإن صعوبة قياسها بدقة لا يجب أن تكون سبباً لتأجيل العمل، بل دافعاً للمضي قدماً بخطى أكثر ثباتاً واستباقية.

ومن الجوانب المهمة أيضاً أن نهج “الصحة الواحدة” يجمع بشكل فريد بين مسؤوليات القطاعين العام والخاص بطريقة تكاملية؛ فالقطاع العام يضطلع بدور محوري في مجالات البحث والتأهب والرصد والتنظيم، وحماية المنافع العامة، غير أن تحقيق الأثر المطلوب يتطلب مشاركة نشطة من القطاع الخاص، ليس كعنصر مكمل، بل كشريك أساسي في التنفيذ، ففي مجالات مثل البنية التحتية وسلاسل التوريد والتكنولوجيا وتقديم الخدمات، توجد فرص واعدة يمكن لخبرة القطاع الخاص واستثماراته أن تُسهم من خلالها في دعم قيادة القطاع العام، وفي ظل التحديات المالية التي تواجهها العديد من دول المنطقة، فإن هذا التعاون لم يعد خياراً، بل ضرورة ملحّة.

وانطلاقاً من ذلك، آن الأوان لتجاوز حصر “الصحة الواحدة” ضمن نطاق المسؤوليات الحكومية فقط، والبدء في تناول جانبها الاقتصادي والتنموي، لا بد من الحديث عن القيمة المشتركة التي يمكن أن تحققها هذه المقاربة، وعن أهمية الاستثمار التشاركي، وبناء نماذج مستدامة توازن بين تحقيق المنفعة العامة وخلق فرص اقتصادية فاعلة.

وما يدعو للتفاؤل أن هناك إشارات واضحة على تنامي الثقة من جانب شركائنا في التنمية، فقد قدم كل من البنك الدولي وصندوق الجائحة تمويلاً مخصصاً لدعم خارطة الطريق الوطنية لـ”الصحة الواحدة” في تونس، ما يعزز التنسيق متعدد القطاعات ويرفع مستوى الجاهزية الوطنية، وفي هذا السياق شهد المؤتمر أيضاً تقدماً في الحوار الثنائي مع دول الجوار -الجزائر وليبيا وفلسطين- حيث تم تحديد مجالات تعاون ملموسة تشمل تصنيع الأدوية وتعزيز الصحة الوقائية والتدريب الفني وتبادل المهارات والخبرات.

وإذ نمضي قدماً، فإن الزخم قائم وتطلعات شعوبنا واضحة: أنظمة صحية قوية، مرنة، وقادرة على التصدي للتحديات المعقدة التي يفرضها المستقبل، ويشكّل نهج “الصحة الواحدة” خارطة طريق متكاملة لتحقيق هذا الهدف، بما يوفره من إطار تنسيقي يجمع بين مختلف القطاعات. لكن النجاح الحقيقي لا يُقاس بالأقوال والنوايا، بل بقدرتنا الجماعية -من حكومات وشركاء دوليين وقطاع خاص وعلماء ومجتمع مدني- على تحويل هذا النهج إلى عمل مستدام ملموس يُحدث أثراً حقيقياً في حياة الناس.

لقد جئتم إلى تونس لتكونوا جزءاً من النقاش، والآن آن الأوان للانتقال من الحوار إلى التنفيذ، فهذه دعوة موجهة إلى جميع حكومات المنطقة لنُواصل المسار معاً، بخطى موحدة، من التفاهم إلى التطبيق، ومن أجل ترسيخ أمننا الصحي وصون مستقبل الأجيال القادمة.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى