Centered Iframe
ثقافة وفنون

التونسيون مـع “ناس الغيوان” في نشيد الحرية والعدالة الإنسانية

اعتلى أعضاء فرقة “ناس الغيوان” ركح مسرح مهرجان الحمامات الدولي في سهرة الأحد 27 جويلية حاملين معهم أكثر من خمسين سنة من التجربة الفنية الملتزمة، ليعيدوا جمهور الدورة 59 إلى ذاكرة فنية وجماعية لا تزال حيّة بكل تفاصيلها. واستعاد فيها الحضور، بتنوع أجياله الصلة بنصوص موسيقية لا تزال تطرق أبواب الوجدان و تستنهض الوعي وتخاطب الإنسان.

وقد غلب على جمهور هذا العرض الكهول الذين عايشوا سنوات “الغيوان” الذهبية، لكن الشباب لم يغيبوا أيضا وكأن هذا الفن استطاع عبر الزمن أن يطوّق الأجيال المختلفة بنداء فني صادق وهادف.

منذ بدايتها في أوائل السبعينيات، اختارت “ناس الغيوان” أن تبني مشروعها الفني من عمق التربة المغربية معتمدة على الإيقاعات الشعبية المتجذرة وعلى أدوات موسيقية تحاكي الذاكرة الجماعية وفي مقدمتها الآلة الموسيقية الافريقية “السنتير” التي طبعت النّفس الغيواني بطابع خاص إلى جانب الإيقاع “الحمدوشي” ذي البعد الصوفي، والذي يتقاطع في رمزيته مع كثير من الممارسات الموسيقية الشعبية في تونس.

وقد أوجد هذا التداخل بين الإيقاعي والروحي نكهة مغايرة للعرض، حيث بدت كل قطعة موسيقية وكأنها حالة شعائرية خاصة تستدعي الماضي دون أن تبتعد عن أسئلة الحاضر حيث تحولت الموسيقى إلى وسيلة للتأمل والارتقاء بالذات الإنسانية.

وكانت الأغاني التي قدمتها الفرقة خلال السهرة استعادة مدروسة لمحطات أساسية في خطابها الفني. وقد افتتح العرض بـ”الله يا مولانا” تلك الأنشودة الصوفية التي تحوّلت منذ السبعينيات إلى رمز للرجاء الشعبي في تضرّع إنساني مفتوح على كل المعاني. ثم جاء دور “يا بني الإنسان” التي تعدّ من أكثر الأغاني مباشرة في خطابها الإنساني، إذ تخاطب الإنسان بصفته الجوهرية متجاوزة الحدود الضيقة للهويات وتضعه في مواجهة مسؤوليته الأخلاقية تجاه الآخر وتجاه العالم.

وحملت أغنية “فين غادي بيا خويا” أبعادا رمزية كبيرة، إذ جاءت كصرخة ضد التهميش والضياع الذي يعيشه الإنسان في ظل غياب العدالة وانسداد الأفق. وجاء كل بيت شعري فيها كان ينضح بشعور الاغتراب داخل الوطن وضياع المصير. أما في “مهمومة” فقد تجلى بوضوح الحس المأساوي في الكتابة الغيوانية، فالأغنية بدت أقرب إلى مونولوغ داخلي ينقل بكلمات بسيطة عمق المعاناة النفسية والاجتماعية لشعب بكامله.

ولم تكن القضية الفلسطينية بمعزل عن اهتمامات “ناس الغيوان” التي أدت “صبرا وشاتيلا”، حيث توقف الزمن قليلا ليعود إلى مذبحة بقيت شاهدة على فشل العالم في حماية أبسط الحقوق. دون شعارات أو خطاب مباشر، حملت الأغنية وجع الأرض المحتلة وحفرت في الذاكرة العربية جرحا مفتوحا لم يندمل خاصة إزاء ما يتعرض له قطاع غزة المحاصر من تقتيل وتهجير وتجويع أمام صمت العالم.

وحتى القطع الموسيقية ذات الطابع الساخر نسبيا مثل “لهمامي” و”لبطانة”، و”الصينية” لم تكن خفيفة من حيث الدلالة بل جاءت مفعمة بالمرارة من الواقع وبقدرة الغيوان على تطويع اليومي لتفكيك البنية الاجتماعية بعين ناقدة وفنية في آن واحد.

ولم تكتف الفرقة بإعادة تقديم تراثها كما هو وإنما عملت على إدماج آلات جديدة كالعود والناي والرق في خطوة عززت الجانب اللحني وأضفت تنويعا موسيقيا دون المساس بجوهر التجربة. وهذا التوازن بين الوفاء للأصل والانفتاح على التجديد كان حاضرا في كل لحظة من العرض وهو ما عزز حيوية المشروع الغيواني وقدرته على الاستمرار دون أن يتحول إلى مجرد ذاكرة فنية.

وعلى امتداد السهرة، كان الجمهور جزءا لا يتجزأ من العرض إذ لم يكتفِ بالتصفيق أو المتابعة بل ردّد الأغاني التي حفظها كلها عن ظهر قلب وانخرط في حالة من التفاعل الوجداني وبدا أن كثيرين لا يسمعون الأغاني لأول مرة وإنما كانت لحظة استعادة للتفكير والتأمل.

وكشفت السهرة الغيوانية في مهرجان الحمامات الدولي عن عمق التشابه الثقافي المغاربي من حيث الإيقاعات الصوفية والمضامين الاجتماعية وطريقة تلقي الفن الملتزم والتفاعل معه. وقد بدت الذاكرة الجماعية واحدة تحمل القضايا نفسها حتى وإن اختلفت اللهجات.

ويتجدد الموعد في سهرة اليوم الاثنين 28 جويلية مع الفن الرابع من خلال عرض مسرحية “سيدة كركوان” من إخراج الثنائي وجدي ڨايدي وحسام الساحلي.
على إيقاعات الطرب الأصيل وأمام مدرّجات مكتظة بالجمهور.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى