في الوقت الذي تعمل فيه الدولة التونسية على ترسيخ إصلاح إداري متناغم مع رؤية سياسية جديدة ترتكز على الشفافية، المحاسبة، والكفاءة، تعيش الشركة التونسية للبنك (STB) – أحد أعرق البنوك العمومية في البلاد – حالة من التسيّب المؤسسي والانحراف الخطير في تسيير الموارد البشرية، تنذر بإجهاض أي مسعى حقيقي نحو الحوكمة الرشيدة في القطاع العمومي البنكي.
1. تعيينات غامضة ومشبوهة
تدور في أروقة الشركة شبهات جدية تتعلق بطريقة التعيينات في المناصب القيادية، حيث يتم تسجيل تغوّل واضح للمحاباة والولاءات النقابية على حساب الكفاءة والشفافية.
أبرز الأمثلة تعيين الكاتب العام للمكتب النقابي كرئيس قطب، مع تمتيع جميع أعضاء المكتب النقابي دون استثناء بمهام وظيفية ذات طابع مالي إضافي، وسيارات إدارية وجرايات محسّنة، ما يثير الريبة بشأن استعمال النفوذ النقابي لخدمة مصالح ضيقة.
2. غياب التدقيق والاستقلالية
في خرق صارخ لمبدأ استقلالية الرقابة، تولّى المدير المركزي السابق للتدقيق الداخلي مهمة الإشراف المؤقت على إدارة التفقد المركزي وإدارة شركة تابعة للبنك، وذلك بتفويض خاص واستثنائي استمر لأكثر من سنتين.
لكن الأخطر من ذلك، أنه تم تعيينه مؤخرًا بصفة رسمية مديرًا عامًا لتلك الشركة التابعة التي كان يشرف عليها، في الوقت الذي يستعد فيه لمغادرة البنك بالتقاعد في غضون أشهر قليلة.
هذه الخطوة تمثل تضارب مصالح مباشر، بما أنه كان يشغل في الأصل منصبًا رقابيًا يفترض فيه الاستقلالية والحياد. وبذلك، تُجهض نهائيًا مهمة الرقابة الداخلية وتُفرغ من محتواها، وتُكرّس منطق “تمهيد الخروج بمكافآت وظيفية”.
3. غياب آليات الحوكمة في الانتداب والتقييم
تفتقر المؤسسة إلى الحد الأدنى من الشفافية في عملية التعيين والانتداب، حيث:
لا تُنظم مناظرات داخلية جدية.
لا تُنشر الخصائص المطلوبة للمناصب القيادية.
لا توجد لجنة انتداب محايدة.
تغيب آلية تقييم دوري للإطارات القيادية.
كل ذلك يساهم في خلق مناخ إداري غير تنافسي، تُحتكر فيه المواقع وفق منطق الولاء لا الكفاءة.
4. استهداف الأصوات الإصلاحية
في سابقة خطيرة، دخل أحد مديري البنك – خبير في المخاطر المالية – في إضراب جوع مفتوح منذ 16 جويلية 2025، على خلفية استدعائه تأديبيًا بسبب انتقاده العلني لعدم تطبيق الفصل 412 من مجلة الالتزامات والعقود، الذي ينص على ضرورة تخفيض نسبة الفائدة على القروض طويلة المدى لفائدة ذوي الدخل المحدود.
هذه الحادثة تكشف عن محاولات ممنهجة لإسكات كل صوت يدعو إلى الإصلاح والحوكمة الرشيدة داخل المؤسسة.
5. موجة تعيينات مشبوهة قبيل مغادرة الإدارة العامة
مع اقتراب موعد تقاعد الفريق الحالي للإدارة العامة في غضون أقل من ثلاثة أشهر، يتم تسجيل تسارع غير مبرر في عمليات التعيين والترقية، يشتبه في كونها محاولة “تأبيد” السيطرة من طرف شبكة مصالح مرتبطة بالمكتب النقابي والإدارة الحالية، وفرض أمر واقع على الإدارة الجديدة المنتظر تعيينها.
هذه الخطوة تثير مخاوف جدية من تثبيت شبكة ولاءات قد تعيق أي مسار إصلاحي لاحق.
من أجل استعادة الحوكمة: مقترحات عملية عاجلة
لإنقاذ ما يمكن إنقاذه واستعادة المبادئ الأساسية لحوكمة الموارد البشرية داخل الشركة التونسية للبنك، نقترح ما يلي:
1. فتح باب الترشحات علنًا لكل المناصب الشاغرة.
2. وضع خطة واضحة للتعاقب الوظيفي مدعومة بآلية مرافقة داخلية.
3. تكوين لجنة مستقلة ومحايدة للتعيينات.
4. إجراء تدقيق خارجي نزيه في التعيينات الأخيرة.
5. إرساء نظام تقييم دوري وشامل للإطارات القيادية.
6. مراجعة هيكلة إدارة الرقابة الداخلية وضمان استقلاليتها.
7. إرساء حماية مؤسساتية للمبلغين عن الفساد وللأصوات المستقلة
إن الشركة التونسية للبنك أمام مفترق طرق حاسم: فإما أن تواصل الغرق في منطق المحاباة وغياب الشفافية، وإما أن تنقلب إلى نموذج وطني في الحوكمة والإدارة الرشيدة، عبر تبنّي إصلاحات جوهرية وشجاعة.
المطلوب اليوم إرادة سياسية حاسمة، ومجتمع مدني يقظ، وقيادة إدارية لا تخشى مواجهة مراكز النفوذ… لأن مصير القطاع العمومي البنكي، ومعه ثقة المواطن، على المحك.