تشهد الساحة الدولية في العقد الأخير تحولات جيوسياسية كبرى، أعادت ترتيب الأولويات والاصطفافات بين القوى العالمية والإقليمية. في قلب هذه التحولات، تبرز منظمة شنغهاي للتعاون (OCS) كتحالف سياسي وعسكري واقتصادي فاعل يضم كلاً من الصين وروسيا والدول الآسيوية الكبرى، ويشكل قوة موازية للغرب، خصوصاً في مواجهة حلف شمال الأطلسي والنفوذ الأمريكي في أوروبا وآسيا الوسطى.
تأسست منظمة شنغهاي للتعاون عام 2001، لتكون في البداية إطاراً للتعاون الأمني بين الصين وروسيا ودول آسيا الوسطى مثل كازاخستان وقرغيزستان وطاجيكستان وأوزبكستان، ثم توسعت لتشمل الهند وباكستان، لتصبح لاعباً رئيسياً على الساحة الدولية. وقد بدأت أهدافها تتعدى محاربة الإرهاب والتطرف لتشمل التنسيق الاقتصادي والسياسي، وتقديم نموذج بديل عن الهيمنة الغربية، مستفيدين من الثقل الاقتصادي الصيني والقوة العسكرية الروسية.
تنامي الدور الصيني والروسي في OCS
الصين، من خلال مبادرة الحزام والطريق، تسعى لتعزيز نفوذها الاقتصادي والسياسي في آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط، مستثمرة قدرتها المالية في مشاريع البنية التحتية والطاقة والتجارة. وفي الوقت نفسه، روسيا تستثمر في قوتها العسكرية ونفوذها السياسي في أوراسيا، مستغلة التنظيمات الإقليمية مثل OCS لتوسيع نطاق تحالفاتها وتقوية موقفها أمام الغرب.
التعاون بين الصين وروسيا في إطار OCS يعكس رؤية استراتيجية مشتركة: تشكيل كتلة دولية قادرة على خلق توازن مقابل الغرب، وتقليل اعتماد الدول على الدولار والاقتصاد الأمريكي، وتعزيز نموذج سياسي متعدد الأقطاب، يسمح بتجاوز الهيمنة التقليدية للأطلسي والنفوذ الأمريكي في القرارات الدولية.
الـ OCS وأوروبا: تحديات ونفوذ متزايد
يطرح النمو المتصاعد للـ OCS تحديات مباشرة لأوروبا والناتو، ليس فقط من الناحية العسكرية، بل من حيث النفوذ الاقتصادي والدبلوماسي. مشاريع الصين في البنية التحتية والطاقة في آسيا وأفريقيا، وتدخل روسيا في النزاعات الإقليمية مثل أوكرانيا وسوريا، تشكل نموذجاً يفرض على الاتحاد الأوروبي إعادة النظر في سياساته الخارجية واستراتيجيته الاقتصادية.
الأوروبيون اليوم أمام واقع متعدد الأقطاب، حيث لم يعد بإمكانهم الاعتماد على حليف واحد فقط لضمان الأمن والتوازن. يفرض عليهم هذا التوازن الجديد التفكير في استراتيجيات مرنة، وتعزيز شراكات مع دول خارج الناتو، بما فيها تلك المشاركة في OCS، دون المساس بالالتزامات الدفاعية التقليدية.
تونس وموقعها في لعبة القوى الكبرى
بالنسبة لتونس، فإن التحولات الدولية هذه تحمل فرصاً وتحديات كبيرة. موقع تونس الجيوسياسي المتميز على البحر الأبيض المتوسط يجعلها جسرًا بين أوروبا وأفريقيا، وقاعدة استراتيجية محتملة للمشاريع الاقتصادية والاستثمارات الصينية. وفي الوقت نفسه، يجب على تونس أن تحفظ سيادتها، وألا تتحول إلى مجرد لاعب تابع لأحد المعسكرين، بل أن تبني سياسة خارجية متوازنة تجمع بين الانفتاح الاقتصادي والحفاظ على الاستقلالية السياسية.
تونس يمكنها الاستفادة من OCS عبر التعاون الاقتصادي والتكنولوجي، خاصة في مجالات الطاقة والبنية التحتية الرقمية، لكنها تحتاج إلى رؤية واضحة: الاستثمارات يجب أن تخدم الاقتصاد الوطني، وتدعم التنمية المستدامة، ولا تهدد القدرة على اتخاذ القرارات السيادية أو السياسة الاقتصادية المستقلة.
المعادلة الجيوسياسية: ما يجب على تونس التفكير فيه
الاستفادة الاقتصادية بدون فقدان السيادة: يجب التركيز على الشراكات التي تقدم منافع ملموسة للاقتصاد الوطني، مثل مشاريع البنية التحتية، الطاقة، الزراعة الذكية، والتكنولوجيا.
تنويع الشراكات الدولية: لا ينبغي حصر العلاقات الدولية في محور واحد. يجب الحفاظ على علاقات متوازنة مع أوروبا، الولايات المتحدة، الدول العربية، وأيضاً مع الصين وروسيا عبر OCS.
الدبلوماسية النشطة: تونس بحاجة إلى قوة دبلوماسية قادرة على التفاوض في ملفات استراتيجية مع هذه القوى الكبرى، لضمان مصالحها الوطنية وعدم الانزلاق إلى صراعات خارجية لا داعي لها.
تطوير القدرات الوطنية: لتعزيز مكانتها، يجب الاستثمار في التعليم والبحث العلمي، والقدرات الدفاعية المحدودة، بما يسمح لتونس بالمشاركة الفاعلة في المبادرات الدولية دون الاعتماد الكلي على الآخرين.
تحديات أمام النظام الدولي الجديد
الـ OCS يمثل نموذجاً متعدد الأقطاب، لكنه يثير تساؤلات حول التوازن بين القوى الكبرى وأثرها على صغار الدول. تظل هناك مخاطر تتعلق بالصراعات الإقليمية، أو ضغوط على الدول الصغيرة للانحياز، أو التدخل في شؤونها الداخلية. تونس، بصفتها دولة صغيرة لكنها استراتيجية، يجب أن تكون واعية لهذه المخاطر، وأن تبني سياسة سيادية مرنة تضمن الاستفادة من التحولات الدولية دون التضحية بالاستقلال الوطني.
مع تصاعد نفوذ منظمة شنغهاي للتعاون، يصبح العالم أكثر تعددية في القوى، وأوروبا أكثر حساسية تجاه التحديات الجديدة، وتونس أمام فرصة فريدة لتعزيز موقعها الإقليمي والدولي. لكنها بحاجة إلى استراتيجيات واضحة، تجمع بين الانفتاح الاقتصادي والسيادة الوطنية، لتستفيد من هذا التوازن الجديد وتحمي مصالحها الوطنية.
الـ OCS ليس فقط محورًا للنفوذ الصيني والروسي، بل فرصة لتونس لإعادة تعريف مكانتها الدولية، وبناء شبكة علاقات متعددة الأقطاب، تحمي استقلالها وتدعم تنميتها المستدامة. إن السياسة الذكية والمرنة، المبنية على تقييم دقيق للقوى الكبرى والتحولات الجيوسياسية، ستكون العامل الحاسم لضمان أن تكون تونس فاعلة وقوية في هذا العالم المتغير.
صابرين بوزرياطة
كاتبة باحثة و صحفية تونسية في باريس
زر الذهاب إلى الأعلى