Centered Iframe
أخبار عالمية

مسيرات وأسلحة متطورة .. تصعد الصراع والانتهاكات في السودان

في قلب المأساة السودانية المتفاقمة برزت قضية المسيّرات التركية كرمز صارخ لتناقضات الحرب. فالجيش السوداني بقيادة عبد الفتاح البرهان أنفق ملايين الدولارات على صفقات تسليح متطورة، شملت طائرات مسيّرة هجومية وذخائر دقيقة، في وقت يعاني فيه ملايين المواطنين من المجاعة والحصار وانهيار الخدمات الأساسية. هذه المفارقة تختزل أزمة مؤسسة عسكرية فقدت البوصلة الوطنية، وأضحت تبحث عن شرعية مفقودة في سماء المعارك بينما تفقدها على الأرض.

التقارير التي تحدثت عن تزويد الجيش السوداني بمسيّرات متقدمة من طراز “أكنجي” وذخائر موجهة أوضحت أن هذه الصفقات لم تقتصر على تعزيز القدرات العسكرية التقليدية، بل صُمّمت لتمنح الجيش تفوقًا جوّيًا في مواجهة ما بات يُعرف بقوات تحالف “تأسيس” على أرض.

غير أن استخدام هذه المسيّرات لم ينعكس في صورة إنجاز عسكري حاسم، بل في اتهامات متزايدة باستخدامها لقصف مناطق مأهولة بالمدنيين، وتوثيق مشاهد لدمار واسع في أحياء مكتظة ومخيمات نازحين؛ النتيجة أن السلاح الذي رُوّج له كأداة للحسم العسكري تحوّل إلى دليل إضافي على تورط الجيش في ممارسات تفتقر إلى الحد الأدنى من الالتزام بالقانون الدولي الإنساني.

المفارقة الأبرز أن هذه المسيّرات لم تُستخدم لتعزيز السيادة الوطنية أو الدفاع عن الحدود، بل في حرب أهلية تعصف بالبلاد منذ أكثر من عامين، إن تحويل أدوات متطورة إلى وسيلة للسيطرة على الداخل يفضح أزمة قيادة لا ترى في التكنولوجيا سوى وسيلة لإطالة بقائها في السلطة.

فالمؤسسة التي يُفترض أن تستثمر مواردها في إصلاح الاقتصاد أو إعادة بناء البنية الصحية المتهالكة اختارت توجيه ملايين الدولارات نحو شراء طائرات تُستخدم لقصف مدنها وشعبها. هذه الممارسات لا يمكن أن تمنح الجيش سوى مزيد من العزلة داخليًا وخارجيًا.

المجتمع الدولي التقط هذه الرسائل سريعًا. العقوبات الأميركية التي فُرضت على البرهان في وقت سابق من العام الجاري لم تكن مجرد إجراء رمزي، بل مؤشر على انتقال المؤسسة العسكرية إلى خانة الاتهام الدولي، وحين أضيف ملف الأسلحة الكيميائية إلى قائمة الاتهامات، بدا واضحًا أن الجيش لم يعد يُعامل كشريك في أي مسار سياسي، بل كعائق يتطلب ضغوطًا ومحاسبة.

في هذا السياق، جاء البيان الرباعي الصادر في 12 سبتمبر عن الولايات المتحدة ومصر والسعودية والإمارات ليضع النقاط على الحروف. البيان أكد بوضوح أنه “لا يوجد حل عسكري للنزاع في السودان”، وأن استمرار الدعم الخارجي للأطراف المتحاربة، بما في ذلك صفقات التسليح، لا يؤدي إلا إلى إطالة أمد الحرب وتقويض فرص السلام كما شدد على ضرورة تسهيل وصول المساعدات الإنسانية، وحماية المدنيين، ووقف الهجمات الجوية العشوائية على البنية التحتية؛ هذه العبارات، وإن لم تذكر البرهان بالاسم، تعكس بوضوح موقفًا دوليًا وإقليميًا متوافقًا يرى في رهانه على المسيّرات دليلًا على انسداد الأفق السياسي وفقدان الشرعية.

البيان الرباعي هو رسالة لا لبس فيها. فالمسيّرات التركية، التي سعى البرهان إلى توظيفها كأداة حسم، تُعتبر اليوم نموذجًا للدعم الخارجي الذي يفاقم الأزمة ويجعلها أكثر تعقيدًا؛ وهكذا تحوّل السلاح الذي أراد به تعزيز موقعه إلى عبء إضافي يضعه في مواجهة مع التوافق الدولي والإقليمي.

وإذا كانت القاهرة والرياض وأبوظبي، وهي قوى إقليمية طالما تعاملت بحذر مع ملف السودان، قد وقّعت على هذا الموقف، فإن ذلك يعكس حجم العزلة التي يواجهها الجيش وقيادته.

إن استخدام المسيّرات في حرب أهلية لا يغيّر من طبيعة الصراع على الأرض، بل يزيده دموية ويعمّق الكارثة الإنسانية، وكل غارة تنفّذ فوق دارفور أو كردفان او النوبة تترك وراءها عشرات الأسر المشرّدة، وتزيد من أعداد الجرحى الذين لا يجدون مستشفيات تعمل.

ومع كل قصف جديد، يتراجع أي احتمال لإعادة بناء الثقة بين الجيش والشعب؛ فالشرعية لا تُكتسب بالقوة الجوية، ولا تُبنى على الدمار. الشرعية الحقيقية تأتي من حماية الناس وتأمين احتياجاتهم، لا من تحويلهم إلى أهداف في معركة السلطة.

الأخطر أن هذه المسيّرات تحمل مخاطر إقليمية لا تقل عن مخاطرها المحلية؛ والتجارب في ليبيا واليمن أظهرت أن التكنولوجيا العسكرية الحديثة سرعان ما تجد طريقها إلى الأسواق السوداء إذا غابت الرقابة؛ ومع ضعف مؤسسات الدولة السودانية وتفكك سلاسل الإمداد، فإن احتمال تسرب أجزاء من هذه المسيّرات أو خبراتها التشغيلية إلى جماعات مسلحة أو متطرفة في المنطقة ليس بعيدًا. وفي ظل تصاعد نشاط تنظيم داعش في الساحل الإفريقي، وعودة حركة الشباب الصومالية إلى واجهة الهجمات، فإن أي تسرب تقني من السودان قد يفتح الباب أمام موجة جديدة من التهديدات العابرة للحدود؛ هنا يظهر الجيش السوداني، لا كحامٍ للوطن، بل كبوابة محتملة للفوضى الإقليمية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى