أُحيل القيادي في حركة الشعب خالد الكريشي، نائب رئيس المجلس الوطني للحركة، على الدائرة المختصة بالنظر في قضايا الفساد المالي في ملفين اثنين وتمّ تحجير السفر عليه في القضيتين إلى حين استكمال الأبحاث والإجراءات القانونية.
تكشف هذه الإحالة عن واحد من أخطر ملفات الفساد المالي المرتبطة بأعمال هيئة الحقيقة والكرامة، حيث يواجه الكريشي، المحامي والنائب السابق عن حركة الشعب، اتهامات خطيرة تتعلق بتضارب المصالح والتلاعب بالقرارات التحكيمية خلال فترة رئاسته للجنة التحكيم والمصالحة صلب الهيئة.
القضيتان المنشورتان في حق الكريشي: تدليس وفساد مالي
قررت دائرة الاتهام المختصة بالنظر في قضايا الفساد المالي بمحكمة الاستئناف بتونس إحالة كل من خالد الكريشي ومبروك كورشيد وسهام بن سدرين على أنظار الدائرة الجنائية المختصة في قضايا الفساد المالي في قضيتين رئيسيتين.
القضية الأولى تتعلق بشبهة تدليس التقرير الختامي الشامل لهيئة الحقيقة والكرامة، وهي قضية خطيرة تنطوي على تزوير وثائق رسمية بهدف تغيير الحقائق المتعلقة بملفات الفساد المالي. وقد تبنى المكلف العام بنزاعات الدولة هذه القضية نظرا لخطورتها وتداعياتها الجسيمة على نزاعات الدولة التونسية.
القضية الثانية تخص القرار التحكيمي الخاص برجل الأعمال سليم شيبوب، صهر الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي.
وتتمحور الاتهامات حول شبهات في إبرام اتفاقية مصالحة مشوبة بتضارب المصالح وانتهاكات إجرائية خطيرة.
تضارب المصالح: علاقة محاماة مع رجال أعمال فاسدين
كشفت تحقيقات محكمة المحاسبات وشهادات أعضاء سابقين بهيئة الحقيقة والكرامة عن وجود تضارب مصالح صارخ في أعمال خالد الكريشي كرئيس للجنة التحكيم والمصالحة.
فقد أثبتت الوثائق أن الكريشي كان ينوب رجل الأعمال لزهر سطا أمام القضاء بصفته محاميا في شركة “التوفيق للمحاماة” التي يشترك فيها مع مبروك كورشيد، وزير أملاك الدولة السابق. وفي الوقت ذاته، كان الكريشي يرأس لجنة التحكيم والمصالحة التي تنظر في ملف سطا المتعلق بالفساد المالي والأضرار التي تسبب بها للدولة التونسية.
و قد وجهت مراسلة إلى هيئة الحقيقة والكرامة في ماي 2018 للتجريح في خالد الكريشي، مطالبة بعدم مشاركته في القرارات التحكيمية المتعلقة بالانتهاكات المالية لرجال الأعمال على غرار لزهر سطا. وجاء هذا التجريح بسبب وجوده في وضعية تضارب للمصالح، مما قد يؤثر على أهم شرط في التحكيم والمصالحة وهو الحياد.
أكثر من ذلك، كشفت الوثائق عن وجود أختام خالد الكريشي وزوجته المحامية سماح الخماسي على ملفات لزهر سطا، مما يعني أن ملف سطا كان يناقش بالتزامن داخل مكتب المحاماة الذي ينوبه وداخل لجنة التحكيم في نفس الوقت ومن نفس الشخص.
علاقة مشبوهة بمبروك كورشيد ودورها في تعطيل العدالة
تكشف التحقيقات عن علاقة مهنية وثيقة بين خالد الكريشي ومبروك كورشيد، الذي كان وزيرا لأملاك الدولة والشؤون العقارية وشريكا له في شركة “التوفيق للمحاماة”. هذه العلاقة المزدوجة خلقت تشابكات خطيرة في ملفات المصالحة، حيث كان كورشيد مرجع نظر في هذه الملفات بصفته وزيرا وتحت إشرافه مؤسسة المكلف العام بنزاعات الدولة، وهو طرف أساسي في عملية الصلح وفق قانون العدالة الانتقالية.
وواصل الكريشي في الأثناء مباشرة مهامه والتداول في جميع ملفات التحكيم والمصالحة بما فيها ملفين موضوع تجريح.
أكدت محكمة المحاسبات في تقريرها أن رئيس لجنة التحكيم خالد الكريشي كان في وضعية تضارب مصالح في عديد الملفات وهو أقرّ بذلك في عديد محاضر الجلسات.
قضية سليم شيبوب: صفقة مشبوهة بـ307 مليون دينار
تعتبر قضية سليم شيبوب، صهر الرئيس المخلوع، واحدة من أخطر ملفات المصالحة التي أشرف عليها خالد الكريشي. في 5 ماي 2016، أعلنت هيئة الحقيقة والكرامة إبرام اتفاقية تحكيم ومصالحة بين شيبوب والدولة التونسية بقيمة 307 مليون دينار.
لكن هذه الاتفاقية شهدت تأخيرات متكررة وتعديلات مشبوهة في دليل الإجراءات، مما أثار شكوكا حول شفافية المسار.
وأكدت مصادر قضائية أن المكلف العام بنزاعات الدولة اتهم الهيئة بالتلاعب في الملف وعدم تقديم المعطيات اللازمة.
كشفت العضوة السابقة بالهيئة ابتهال عبد اللطيف عن وجود شبهات خطيرة في التعامل مع ملف شيبوب، مشيرة إلى أن الاتفاقية التحكيمية كانت مشوبة بإخلالات وتضررت منها الدولة. وأضافت أن سهام بن سدرين قامت بإعداد شرح تحكيمي للاتفاقيات تضمن قرارات إضافية بتمتيع زوجات بعض طالبي التحكيم باسترجاع أملاكهم المصادرة دون وجه حق، وفي ذلك إخلالات كبرى وخرق للقانون.
ملف لزهر سطا: نموذج للفساد المنظم
يمثل ملف رجل الأعمال لزهر سطا نموذجا صارخا لتضارب المصالح والفساد الذي شاب أعمال لجنة التحكيم والمصالحة تحت قيادة خالد الكريشي.
كان سطا متورطا في ملفات فساد مالي كبرى، منها قضية “اسمنت قرطاج” التي تتعلق بعمولة قيمتها 30 مليون يورو انتفع بها أعضاء مجلس إدارة الشركة بطريقة غير قانونية. وقضت دائرة الفساد المالي في حقه بالسجن مدة 8 سنوات مع خطايا مالية قدرت بـ45 مليارا.
ورغم خطورة ملف سطا، إلا أن الكريشي أشرف على التحكيم معه رغم كونه محاميه وشريكا في مكتب المحاماة الذي ينوبه.
وأصدرت هيئة الحقيقة والكرامة قرارا تحكيميا يقضي بدفع سطا 115 مليون دينار مقابل إسقاط كل القضايا بحقه.
كما تم الكشف “عن وجود مراسلة تثبت أن الكريشي كان ينوب شركتين مصادرتين هما “شمال إفريقيا للاستثمار” و”عقارية ستاما” أمام القضاء، بعد أن كانتا على ملك لزهر سطا. وهذا يؤكد أن الكريشي كان يحكم في ملفات منوبيه، رجال أعمال سابقين تورطوا في الفساد.
قدمت عبد اللطيف شكاية إلى المحكمة الابتدائية بتونس حول “شبهات خطيرة وتلاعب باتفاقيات تحكيمية في الفساد المالي”، مبينة أن فرقة عدلية مختصة تعهدت بالملف الذي يشمل خالد الكريشي و سهام بن سدرين مع أطراف سياسية ورجال أعمال.
أكدت عبد اللطيف أنها لم تمضط الاتفاقية النهائية مع رجل الأعمال لزهر سطا وما بعدها من الاتفاقيات التحكيمية “لأن سهام بن سدرين قررت إرجاع كل الأملاك المصادرة لطالبي التحكيم من ناهبي المال العام”. وأضافت أن هذا الأمر هو أحد أسباب تقديم استقالتها من لجنة التحكيم والمصالحة.
كما كشفت عبد اللطيف عن أن الاتفاقيات التحكيمية الممضاة أغلبها مشوبة بإخلالات وشبهات ومضرة بالدولة وهي محل طعون من قبل المكلف العام بنزاعات الدولة لتضمنها خرقا كبيرا للقانون واعتداء على الدولة.
تقدمت عبد اللطيف بوثائق مادية للقضاء تدين المشتكى بهم، منها أختام الكريشي وزوجته على ملفات رجال أعمال التي كانت تخرج من الهيئة مباشرة لمكتب المحاماة الخاص به، وكذلك اتفاقيات مبدئية أمضاها مع منوبيه على غرار لزهر سطا.
تدليس التقرير الختامي: جريمة مضاعفة
تعتبر قضية تدليس التقرير الختامي لهيئة الحقيقة والكرامة من أخطر القضايا المنشورة في حق خالد الكريشي ومبروك كورشيد وسهام بن سدرين.
كشفت العضوة السابقة بالهيئة ابتهال عبد اللطيف عن وجود نسخ مختلفة من التقرير تم تسليمها إلى رئيس الجمهورية، مما يثبت وقوع تدليس متعمد. ووجهت لفت نظر لرئيس الحكومة إلياس الفخفاخ لعدم نشر التقرير الختامي للهيئة في الرائد الرسمي لـ”وجود مخاطر بنشر تقرير مدلس”.
تبنى المكلف العام بنزاعات الدولة القضية نظرا لخطورتها وتداعياتها الجسيمة على نزاع الدولة التونسية مع خصمها عبد المجيد بودن ممثل المجموعة العربية للاستثمار والذي تجاوز مدة 35 سنة أمام هيئة التحكيم الدولية “سيردي”.
أحال المكلف العام الأمر إلى القضاء منذ شهر فبراير 2021 لتنتهي الأبحاث الأولية بتأكيد الشبهات، مما جعل وكيل الجمهورية يحيلها على القطب القضائي المالي للتحقيق. وتم سماع ابتهال عبد اللطيف كشاهدة ومبلغة من قبل الفرقة الاقتصادية للأبحاث فضلا عن سماع عضو آخر من الهيئة.
أكدت عبد اللطيف أن التقرير “مليء بالفخاخ”، مشيرة إلى كيفية تناول قضية البنك الفرنسي التونسي التي تمثل “قضية مصيرية لبلادنا”. واعتبرت أن سهام بن سدرين “تبنت حرفيا رواية خصيم الدولة التونسية عبد المجيد بودن دون أي تقصي ودون سماع باقي الأطراف”.
زر الذهاب إلى الأعلى