قضت الدائرة الجنائية المختصة بالنظر في قضايا الفساد المالي بالمحكمة الإبتدائية بتونس بأحكام سجنية ثقيلة تصل إلى 30 عاما في حق الرئيس الأول السابق لمحكمة التعقيب الطيب راشد، في قضية تعد من أخطر قضايا الفساد المالي التي عرفتها المنظومة القضائية التونسية. وجاءت الأحكام الصادرة بتاريخ 27 أكتوبر 2025 لتضع حدا لقضية شغلت الرأي العام التونسي لسنوات، وكشفت عن تورط قضاة ورجال أعمال في شبكة فساد معقدة قُدّرت خسائر الدولة فيها بـ 6000 مليون دينار.
وقضت الدائرة الجنائية بسجن رجل الأعمال نجيب بن اسماعيل 27 عاما، ورجل الأعمال فتحي جنيح 30 عاما، والسجن 20 عاما في حق قاض معزول، وذلك من أجل تهم تتعلق بتكوين وفاق بغاية غسيل الأموال والارشاء والارتشاء والباعث على ذلك والتدليس ومسك واستعمال مدلس.
تفاصيل الأحكام السجنية والتهم الموجهة للمتورطين
كانت دائرة الاتهام المختصة بالنظر في قضايا الفساد المالي لدى محكمة الاستئناف بتونس قررت إحالة الطيب راشد ونجيب بن اسماعيل وفتحي جنيح والقاضي المعزول على أنظار الدائرة الجنائية لقضايا الفساد المالي، وذلك لمحاكمتهم من أجل تهم خطيرة تتعلق بتكوين وفاق بغاية غسيل الأموال باستغلال التسهيلات التي خوّلتها خصائص النشاط المهني والاجتماعي، والارشاء والارتشاء والباعث على ذلك، إضافة إلى التدليس ومسك واستعمال مدلس.
وكشفت التحقيقات أن القضية تتعلق باتهام الطيب راشد بتسلم رشوة قدرها 6 مليون دينار من قبل رجل الأعمال نجيب اسماعيل مقابل الحكم لصالحه في إحدى القضايا المنشورة ضده، في صفقة أضرت بمصالح الدولة التونسية وأخلّت بسير العدالة.
وقد شهدت القضية مسارا قضائيا طويلا امتد لسنوات، رفضت خلاله المحكمة مرارا طلبات الإفراج عن المتهمين الموقوفين.
جذور القضية: من الارتشاء إلى تبييض الأموال
تم إيقاف رجل الأعمال نجيب بن اسماعيل ورجال أعمال آخرين من بينهم فتحي جنيح، ووضع بن اسماعيل قيد الإقامة الجبرية وتمت مصادرة أملاكه من أجل قضايا تتعلق بالتهريب والتهرب الضريبي وتبييض الأموال. غير أن محكمة التعقيب قضت آنذاك لفائدته بالنقض دون إحالة في القضية المرفوعة ضده، وهو القرار الذي أثار جدلا واسعا واتهامات بتدخل الطيب راشد في سير الملف.وكان قاضي التحقيق بالقطب القضائي الاقتصادي والمالي قد أصدر في ديسمبر 2023 بطاقة إيداع بالسجن في حق نجيب بن اسماعيل من أجل تهمة إرشاء موظف عمومي والتدليس ومسك واستعمال مدلس وتبييض أموال.
وتم فتح الملف من جديد بعد أن تعهد أحد قضاة التحقيق بالقطب القضائي الاقتصادي والمالي بالملف، وأصدر عدد من بطاقات الإيداع بالسجن في شأن المظنون فيهم من بينهم رجل الأعمال المذكور وقضاة سابقون.
بالنسبة لرجل الأعمال فتحي جنيح، فقد تم إيقافه منذ 25 ماي 2017، بتهم تتعلق بالتصريح المغلوط في القيمة وتبييض الأموال والتوريد بدون إعلام لبضاعة محجرة باستعمال وثائق مفتعلة وجرائم صرفية.
وبعد أن قررت دائرة الاتهام الإفراج عنه في 23 أوت 2018 لتجاوز المدة القانونية للإيقاف، تم إيقافه مجددا في أكتوبر 2018 بعد إصدار بطاقة إيداع بالسجن جديدة في حقه.
الانحرافات الإجرائية: كيف تلاعب الطيب راشد بالقضاء؟
كشفت الأبحاث التأديبية التي أجرتها التفقدية العامة بوزارة العدل عن انحرافات خطيرة في المسار الإجرائي لقضايا رجلي الأعمال نجيب بن اسماعيل وفتحي جنيح، حيث تدخل الطيب راشد بصفة مباشرة وغير مباشرة في مسار هاتين القضيتين اللتين قُدّرت خسائر الدولة فيهما بـ 6000 مليون دينار. فإن الطيب راشد انحرف بالمسار الإجرائي لقضية نجيب بن اسماعيل بتعمده بصفته وكيلا عاما لمحكمة الاستئناف عدم إحالة ملف بن اسماعيل على قاضي التحقيق قصد تنفيذ قرار دائرة الاتهام، بما تسبب في استهلاك مدة إيقاف المتهم الأول نجيب بن اسماعيل ومن ثمة تمتيعه بالإفراج الوجوبي لانقضاء المدة القصوى المنصوص عليها بالفصل 85 من مجلة الإجراءات الجزائية.
وبتاريخ 16 أوت 2018، كلّف الوكيل العام الطيب راشد دائرة اتهام أخرى غير مختصة قانونا للنظر في ملف رجل الأعمال، وقررت هذه الدائرة الإفراج عنه لانقضاء آجال الإيقاف التحفظي، رغم أن الجهة المختصة في النظر في مطلب الإفراج الوجوبي هو قاضي التحقيق.
وأشار التقرير إلى أن المحامي الذي تولى الطعن في التعقيب لم يكن إطلاقا نائبا في القضية وليس له إعلام نيابة سابق، وأنه تولى الطعن بعد انقضاء آجال الطعن القانونية.
فضيحة الدوائر الصيفية: تلاعب بقرارات محكمة التعقيب
واصل الطيب راشد تدخله في المسار الإجرائي لقضية رجل الأعمال نجيب اسماعيل بعد تعيينه رئيسا أولا لمحكمة التعقيب، حيث تولى إحداث مسارات قضائية موازية بتعيين دائرة صيفية تحت عدد 35 للنظر في قضية المتهم نجيب اسماعيل رغم أنه بحالة سراح، على خلاف ما اقترح بشير المطوي وكيل الرئيس الأول للتعقيب.
وتولى راشد إحداث دائرة صيفية أخرى تحت عدد 36 للنظر في ملف فساد رجل الأعمال الثاني فتحي جنيح، وعين قضاة لا تتوفر فيهم الشروط القانونية لتقلد رؤساء دوائر، وفرض تعيين مستشار للعمل بهذه الدوائر رغم رفضه التعيين.
وعند استماع التفقدية العامة لهذا المستشار الذي ترأس دائرة تعقيبية، تبين أنه يحمل وثيقة طبية تثبت معاناته من عجز ذهني بـ67 بالمائة، وأنه يتعذر عليه التعاطي مع ملفات قضائية من الحجم الكبير تتعلق بالفساد المالي.وصرح هذا المستشار للتفقدية العامة بوزارة العدل أنه لم يطلع إطلاقا على محتوى القرارات التعقيبية الصادرة.
وكان الوكيل الأول لرئيس محكمة التعقيب في تلك الفترة قد صرح للتفقدية العامة بوزارة العدل أنه يجهل مرد إحداث الدائرتين الصيفيتين، وأنه لم تتم استشارته في إحداثهما، وأنه تفطن لاحقا إلى أن الرئيس الأول، في إشارة إلى الطيب راشد، استغل طيبته لتنفيذ مشروع معين داخل المحكمة، خاصة منها المسارات القضائية لبعض القضايا التي كان يتولى الطيب راشد اختيارها، وأنه كان يتولى إعداد قائمة خاصة لبعض القضايا التي يعتبرها هامة والواردة خاصة من القطب القضائي المالي والاقتصادي والقطب القضائي لمكافحة الإرهاب.
قرارات مشبوهة: النقض دون الإحالة في ثماني قضايا فساد مالي
لفت تقرير التفقدية العامة بوزارة العدل إلى أن الدائرتين الصيفيتين المعينتين من قبل الطيب راشد في 2019 أصدرتا قرارات بالنقض دون الإحالة في ثماني قضايا فساد مالي، وأكد التقرير على أنها قرارات مسترابة وفيها خرق للقانون وتحوم حولها الشبهات.وعرج التقرير على القضية التعقيبية المتعلقة بالمستثمرين فتحي جنيح وعادل جنيح المتهمين بشبهات تبييض أموال والتدليس ومسك واستعمال مدلس وتوريد بضاعة محجرة دون إعلام، وأكد أن الدائرة الصيفية التي عينها الطيب راشد للنظر في هذه القضية حكمت بنقض قرار المحكمة دون إحالة.
وفي أوت 2019، أصدرت محكمة التعقيب قرارا في قضيتين موضوع التتبع فيهما ضد كل من رجلي الأعمال فتحي جنيح ونجيب إسماعيل وتتعلقان بتهم تبييض الأموال والجرائم الجمركية، وذلك بقبول الطعن في القضيتين شكلا وأصلا دون إحالة ملف القضية مجددا على دائرة الاتهام بمحكمة الاستئناف، مما يعني حفظ التتبعات في حق رجلي الأعمال المذكورين بصفة نهائية
مسار القضية: من الإيقاف إلى الإدانة
بعد فتح التحقيقات مجددا، أصدر قاضي التحقيق بالقطب القضائي الاقتصادي والمالي في ديسمبر 2023 بطاقة إيداع بالسجن في حق الرئيس الأول السابق لمحكمة التعقيب الطيب راشد من أجل شبهة “تبييض أموال”، في إطار قضية تحقيقية شملت العديد من الأسماء من بينهم رجل الأعمال نجيب بن إسماعيل وقضاة موقوفين على ذمة القضية.وقررت دائرة الاتهام المختصة بالنظر في قضايا الفساد المالي لدى محكمة الاستئناف بتونس إحالة الطيب راشد ونجيب بن اسماعيل وقاض معزول بحالة إيقاف، ورجال أعمال وأجنبي بحالة سراح فرار، على أنظار الدائرة الجنائية لقضايا الفساد المالي بالمحكمة الإبتدائية بتونس لمحاكمتهم من أجل تهم تتعلق بتكوين وفاق بغاية غسيل الأموال باستغلال التسهيلات التي خوّلتها خصائص النشاط المهني والاجتماعي والارتشاء والباعث على ذلك.