لم يسبق للإنسان، في تاريخه الممتد، أن عاش في عالمٍ يفيض بالوفرة كما اليوم. الأسواق تضج بالسلع، والخيارات لا حصر لها، والتكنولوجيا تقبع في الجيب كخادمٍ مطيع، والراحة لم تعد امتيازاً نادراً بل حقاً مكتسباً. ومع ذلك، وبمفارقة مؤلمة، لم يسبق له أن شعر بهذا القدر من الفراغ الوجودي، والقلق المزمن، والاكتئاب الجماعي. كأن الوفرة، التي وُعدنا بأنها ستكون ذروة السعادة البشرية، تحولت إلى عبء خفي ينهش الروح من الداخل.
هذه ليست أزمة فقرٍ أو حرمان، بل هي أزمة معنى في أعمق صورها.
عالمٌ يملك كل شيء… ولا يعرف لماذا
في المدن الحديثة، لا يموت الناس جوعاً، بل يموتون تعباً نفسياً واختناقاً روحياً. موظف ناجح، يرتدي أفضل الثياب ويقود سيارة فاخرة، يشعر بالاختناق كل صباح وهو في طريقه إلى مكتبه الزجاجي. شاب يملك هاتفاً أغلى من أحلام جيل أبيه بأكمله، لكنه عاجز عن تفسير مصدر قلقه الدائم. أسرة تعيش في بيت واسع تحيط به حديقة، لكن الحوار بين جدرانه أضيق من زنزانة.
لقد وفّر لنا عصر الرفاه كل شيء، إلا الإجابة عن السؤال البدائي والأهم: لماذا نعيش؟
حين تُختزل الحياة في معادلة الاستهلاك، ويُقاس النجاح بالرصيد البنكي، ويُختصر الزمن في انتظار عطلة نهاية الأسبوع، يفقد الإنسان بوصلته الداخلية. يصبح مشغولاً دائماً لكنه غير حاضر، متصلاً بكل شيء إلا بذاته. لقد تحول الإنسان من كائن باحث عن الحقيقة إلى مجرد مستهلك للذة، وهذا هو مصدر الداء.
القلق: مرض العصر الصامت
لم يعد القلق حالة نفسية استثنائية تصيب البعض، بل أصبح حالة وجودية عامة، وضباباً كثيفاً يغشى الأفق. إنه قلق من المستقبل رغم كل وثائق التأمين والضمانات، وقلق من الفشل رغم النجاحات المتراكمة، وقلق من الوحدة في خضم الزحام وضجيج الملايين.
وسائل التواصل الاجتماعي، التي وُعدنا بأنها ستقربنا وتؤنس وحدتنا، فاقمت الداء. لقد حوّلت الحياة إلى مسرح عالمي للمقارنة المستمرة، وسرّعت إيقاع الزمن إلى درجة اللهث، وجعلت الإنسان يركض بلا توقف، ليس نحو هدف حقيقي، بل هرباً من الشعور بأنه متأخّر عن وهمٍ اسمه “الحياة المثالية” التي يراها على الشاشات. نحن لا نعيش حياة سيئة بالضرورة، بل نعيش حياة مرهقة بلا معنى واضح، حياة نركض فيها دون أن نعرف وجهتنا.
الاكتئاب الجماعي: حين يتعب الروح لا الجسد
في مجتمعات الوفرة، لا ينبع الاكتئاب غالباً من الحرمان المادي، بل من التشبع الحسي والروحي. تشبع بالصور، بالكلام، بالخيارات، بالضجيج الذي لا يهدأ. الروح، تماماً مثل الجسد، حين تُغذّى بلا توازن وبطعام فاسد، فإنها تمرض وتذوي. لقد أُتخمت حواسنا، وجاعت أرواحنا.
الإنسان، في جوهر تكوينه، كائن يحتاج إلى غاية تتجاوز ذاته، لا إلى متعة تخدم غرائزه فقط. وحين تُلغى الغاية الكبرى، وتصبح المتعة هي الهدف الأوحد، تتحول هذه المتعة إلى إدمان، ثم إلى ملل، ثم إلى فراغ قاتل لا يملؤه شيء. هذا الفراغ هو التربة التي ينبت فيها الاكتئاب الحديث، اكتئاب الأرواح المتعبة لا الأجساد المنهكة.
القرآن ومعنى الطمأنينة الغائب
في خضم هذا الضجيج، يلفت القرآن الانتباه إلى حقيقة مركزية يغفل عنها العالم الحديث، حين يضع يده مباشرة على جذر الأزمة:
﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ (سورة الرعد، الآية 28)
لم يقل النص الإلهي: تطمئن بالمال، ولا بالنجاح، ولا بالوفرة، ولا باللذة. لقد ربط الطمأنينة، وهي أثمن شعور يطلبه الإنسان، بالذكر. و”ذكر الله” في جوهره ليس مجرد طقس لفظي، بل هو حالة وعي شاملة بالمبدأ والمصير والغاية. إنه استحضار دائم للإجابة عن الأسئلة الكبرى: من أين جئت؟ ولماذا أعيش هنا؟ وإلى أين أتجه؟
حين يمتلك الإنسان هذه الإجابات، تهدأ فوضى الداخل، وتترتب أولوياته، ويجد معنى حتى في الألم، وقيمة حتى في الكدح. حينها، يصبح العالم الخارجي، بكل ما فيه من قلة أو كثرة، مجرد وسيلة، لا غاية تستهلك روحه.
من الرفاه إلى الحكمة: الطريق الممكن
ليست المشكلة في الرفاه نفسه، فهو نعمة، بل في تحويله من وسيلة إلى غاية، ومن أداة إلى معبود. فالحياة التي تُبنى على البحث عن الراحة فقط، تنهار عند أول تعب. والحياة التي تُبنى على المعنى، تصمد حتى في قلب العاصفة.
العالم اليوم لا يحتاج إلى مزيد من الأشياء، ولا إلى مزيد من الخيارات. بل يحتاج إلى شجاعة إعادة طرح الأسئلة الكبرى التي تجاهلها:
من نحن كبشر؟
ما الذي يستحق حقاً أن نُتعب أجسادنا وأرواحنا من أجله؟
ومتى يكون “الكافي” كافياً فعلاً؟
حين نمتلك العالم ونفقد أنفسنا
إن أزمة المعنى ليست قدراً محتوماً، بل هي نتيجة اختيارات حضارية وفردية. وحين يجرؤ الإنسان على التوقف، لا ليستهلك أقل فقط، بل ليفهم أكثر ويتأمل أعمق، يبدأ طريق الشفاء.
قد نعيش في أكثر العصور وفرةً في التاريخ، لكن القلب، هذا العضو الغامض، لا يشبع بالوفرة، بل لا يشبع إلا بما يمنحه سبباً حقيقياً للنبض.
زر الذهاب إلى الأعلى