أخبار وطنية

“ملف التسفير: جريمة دولة أم إرث منظومة الإخوان؟” بقلم: سليم العقربي

بقلم: سليم العقربي

لا يمكن الحديث عن العشرية السوداء في تونس دون الوقوف مطوّلاً عند ملف التسفير، ذلك الجرح الوطني المفتوح، الذي نزف من خلاله شبابنا إلى بؤر الموت باسم “الجهاد”، فوجدوا أنفسهم أدوات في لعبة دولية قذرة، سهّلتها أيادٍ من الداخل قبل الخارج.

التسفير: من الداخل إلى الخارج

لقد انطلقت أولى موجات التسفير بعيد 2011، وسط فوضى أمنية وتشريعية خلقتها منظومة الترويكا، التي تسلّمت الحكم وفتحت أبواب البلاد لجمعيات “خيرية” ومراكز دعوية، أغلبها بتمويلات مشبوهة من الخارج. وبينما كانت سوريا تحترق، كانت المطارات التونسية تمرّر المقاتلين دون رقابة تُذكر، وبتسهيلات موثقة من مسؤولين ووزراء. لم يكن ذلك مجرد إهمال أمني، بل كان يُنظر إليه على أنه جزء من سياسة دولية إقليمية تسعى إلى خلق بيئة مناسبة لزعزعة الاستقرار في المنطقة العربية.

الدعوات للجهاد في المساجد: مَنْ وراءها؟

في ذلك الوقت، كانت المساجد في بعض المناطق تمثل منصة أساسية لتوجيه الشباب نحو “الجهاد”، بدلاً من دورها في تعليم القيم الدينية والتوجيه الروحي. ترافق ذلك مع خطاب تحريضي من بعض الأئمة الذين كانوا يدعون علنًا للجهاد في سوريا والعراق وليبيا، رغم أن هذه الدعوات كانت تخالف تعليمات الدولة والتوجهات الدينية المعتدلة. وكانت الأموال تتدفق عبر قنوات غير قانونية، لا سيما من دول مثل قطر وتركيا، التي دعمت بشكل غير مباشر هذه الظواهر عبر تمويل الجمعيات الإسلامية المتشددة.

المواقف الدولية: ضغوط وتواطؤات

في حين كانت الحكومة التونسية تتلقى دعوات من المجتمع الدولي للقيام بمزيد من الإجراءات لمحاربة الإرهاب، الضغط الخارجي لم يكن دائمًا على جانب تونس. بل كان لبعض الأطراف الدولية دور خفي في تسهيل العمليات. فبالإضافة إلى الدعم المادي والمعنوي الذي تلقته بعض الجماعات المسلحة من دول خليجية أو إقليمية، نجد أن بعض الدول الغربية كانت تتعاون مع الأنظمة السابقة، ومن ثم تتنصل من مسؤولياتها حين تعلق الأمر بالتحقيق في هذا الملف، خاصة في ظل حالة من الإنكار إزاء العلاقة بين التواطؤ السياسي والإرهاب.

كانت الأسلحة التي تم تهريبها إلى تونس عبر الحدود مع ليبيا، إلى جانب الأسلحة الخفيفة والمتوسطة، تُمثل أحد أبرز الأدوات التي استخدمها الإرهابيون لتعزيز قوتهم في المعارك. مخازن الأسلحة كانت مليئة بكميات ضخمة من العتاد، والذي تم تزويده إلى العديد من الجماعات المتطرفة، التي تدربت على استخدام هذه الأسلحة في معسكرات داخل ليبيا وسوريا. ويظل السلاح، الذي مر عبر دول معينة، من أكثر المكونات إرباكًا في هذا الملف، حيث يبقى السؤال: من كان يسهل وصول هذه الأسلحة إلى تونس؟ ومن يقف وراء هذه الشبكات السرية؟

دماء أبناء القوات المسلحة والأمن: ضحايا للوطن

وفي الوقت الذي كان فيه شباب تونس يُسَفَّرون إلى ساحات القتال في الخارج، كانت القوات المسلحة التونسية والأمن الوطني يتعرضون لعمليات إرهابية دامية داخل حدود الوطن. مئات من رجال الأمن والجيش التونسي، الذين سقطوا في معارك ضد الإرهاب، دفعوا حياتهم ثمناً لحماية الحرية والكرامة الوطنية. هؤلاء الشهداء، الذين سقطوا في معارك جبهة الوطن، لم يترددوا لحظة في الوقوف في وجه الظلاميين، على الرغم من ضعف الإمكانيات أحيانًا، وتدني التنسيق مع الدول الكبرى التي تدّعي محاربة الإرهاب.

لا يمكن أن ننسى أن دماء أبناء تونس، سواء كانوا من القوات المسلحة أو من رجال الأمن، كانت جزءًا من تضحية عظيمة لوقف المد الإرهابي الذي كان يهدد مستقبل البلاد. وإن الحديث عن ملف التسفير لا يجب أن يكون مجرد إدانة للمسؤولين عن تسهيل هذا المسار، بل هو أيضًا إدانة للذين تقاعسوا في توفير الحماية الكافية للأمن الوطني، مما جعلهم هدفًا سهلًا للعمليات الإرهابية.

القضاء والتصدي للفساد: خطوة نحو السيادة

اليوم، وبعد سنوات من التسويف السياسي، جاء دور الرئيس قيس سعيّد الذي بدأ في فتح ملف التسفير، محاولًا تجاوز الخطوط الحمراء التي فرضتها شبكة العلاقات المتشابكة في الدولة العميقة. في 25 جويلية 2021، وضعت تونس قدميها على طريق السيادة الوطنية، والقطع مع الماضي الذي كان يسيطر عليه الفساد والتواطؤ. وكان القضاء قد بدأ في التحقيق في المجموعات المتورطة في التسفير، ولم يكن الأمر مقتصرًا على الأفراد فقط، بل وصل إلى أعلى الدوائر في السلطة.

التصدي للفساد في هذا الملف ليس مجرد عملية سياسية، بل هو حاجة وطنية للانتقال من مرحلة التبعية إلى مرحلة السيادة. كيف يُمكن لتونس أن تظل حرة إذا كانت تفتح أبوابها للقتلة والمجرمين، ويُسهل على شبابها الذهاب إلى ساحات القتال؟ كيف نستطيع بناء دولة قوية وقادرة على المواجهة في ظل وجود تدخلات خارجية تعيق كل مسعى للتحرر السياسي؟

لقد آن الأوان لتسمية الأشياء بمسمياتها: التسفير جريمة دولة، وتواطؤ سياسي موثق، وسنظل نطالب بالحقيقة والعدالة، لا انتقامًا، بل وفاءً لدماء أبنائنا، سواء كانوا من الجيش الوطني أو قوات الأمن، وحفاظًا على ما تبقى من كرامة وطن.

رابط فيديو حمزة بن رجب هنا 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى