في كل صيف، يُسلّط الضوء على مهرجان قرطاج الدولي، هذا الفضاء الثقافي العريق الذي حمل يومًا اسم تونس عاليًا في سماء الإبداع العربي والعالمي. لكن للأسف، تحوّل هذا الموعد الثقافي مع مرور السنوات إلى مجرّد واجهة للاستعراض والبهرجة، تُنفق فيها أموال ضخمة على حساب أولويات وطنية أكثر إلحاحًا، وعلى رأسها الصحة والتعليم والعدالة الاجتماعية.
في الدورة الحالية، تعالت الأصوات المستنكرة لما قيل عن أجور بعض الفنانين الأجانب، والتي وصلت إلى 120 ألف دولار مقابل حفل لا يتعدى الساعتين. هذا في وقتٍ ينتظر فيه آلاف المرضى في تونس أشهرًا لإجراء صورة بالرنينالمغناطيسي، وقس على ذالك وتعاني فيه المؤسسات العمومية من نقص التجهيزات والموارد.
لكن الأخطر من كل ذلك، هو التهميش الممنهج للموسيقيين والملحنين التونسيين الكبار، الذين قدّموا الكثير للفن الوطني، وشاركوا في تكوين ذائقة الأجيال وبناء هوية موسيقية تونسية فريدة.
🎼 من بين هؤلاء، نذكر بكل تقدير:
سمير العقربي، ملحن وموسيقى وأثرا ولا يزال مجدد، جمع بين التراث والحداثة، وأنتج أعمالًا راسخة وستبقى في الذاكرة الفنية الوطنية.
عبد الرحمان العيادي، أحد أبرز قادة الأوركسترا في تونس، وصاحب رؤية موسيقية راقية جمعت بين الأصالة والعمق الأكاديمي.
عبد الكريم صحابو، الذي طبع حقبة كاملة من تاريخ الأغنية التونسية بألحانه المتميزة وشخصيته الفنية الهادئة والمبدعة. والقرفى الاستاذ والموسيقار والملاحن
هؤلاء لم تُمنح لهم المكانة التي يستحقونها، لا ماديًا ولا معنويًا. أعمالهم تُعرض وتُبث وتُباع، وغالبًا دون احترام لحقوق التأليف والتلحين، وبلا عقود تحفظ كرامتهم.
تُمرر إنتاجاتهم إلى التلفزة الوطنية ومؤسسات أخرى، تحت غطاء “التكريم” أو “الاحتفاء”، بينما الأجور هزيلة، لا تتجاوز 2600 دينار، وهذا واقع يعرفه كل من اقترب من كواليس هذه المشاريع.
أن يُبرمج مهرجان قرطاج عرضًا بعنوان “ليلة من أعمال العقربي والعيادي”، فذلك جميل من حيث الشكل.
لكن أن تُستغل هذه العناوين لملء البرنامج وتسويق الحدث، ثم لا يحصل أصحاب هذه الأعمال على حقوقهم القانونية، فذلك إهانة موصوفة باسم الثقافة.
وما يزيد الأمر مرارة أن هذه الممارسات تتم بصمت تام من المؤسسات الرسمية، التي يُفترض أن تكون حامية للحقوق، لا شريكة في انتهاكها.
في الوقت الذي تُصرف فيه آلاف الدولارات على أسماء فنية مستوردة، بعضها فقد بريقه، ولا يضيف شيئًا للساحة الثقافية، نجد أن الموسيقي التونسي يُقصى من المنصات، ويُحرم من أبسط حقوقه، بل وحتى من الضمان الاجتماعي والتغطية الصحية.
أيُّ رسالة نوجهها للأجيال الجديدة من الملحنين والفنانين؟
أن لا جدوى من الإبداع؟
أن العلاقات أهم من القيمة؟
أن الأجنبي، حتى لو أتى بعروض مكررة، أولى من ابن البلاد الذي بنى ذاكرة الفن الحقيقي؟
ما نريده واضح:
تكريس العدالة في التعامل مع الفنان التونسي.
احترام حقوق التأليف والتلحين بعقود قانونية واضحة.
مراجعة سلم الأجور بما يليق بالمستوى الفني والتاريخ المهني.
حماية إنتاجات الموسيقيين من الاستغلال إدماج الفنانين في منظومة الضمان الاجتماعي.
الفن لا يُبنى على الظلم
ثقافة تُهين رموزها، ثقافة محكوم عليها بالتراجع.
مهرجان قرطاج، إذا أراد استعادة هويته ومصداقيته، عليه أن يبدأ بتكريم من أسّسوا له قاعدته الصلبة، لا أن يلمّع من لا علاقة له بتاريخ البلاد ولا بمستقبلها.
المال العام أمانة، والفن ليس غطاءً لتبرير العبث.
وإذا أردنا مستقبلًا ثقافيًا مشرقًا، علينا أولًا أن ننصف العقربي، العيادي، صحابو، ومن سار على دربهم.
زر الذهاب إلى الأعلى