لم يكن المشهد الذي جرى داخل أحد أقبية السجون الإسرائيلية حدثًا عابرًا، بل كان لوحة سياسية وإنسانية عميقة المعاني. ففي لحظةٍ ظن وزير الأمن القومي في حكومة الاحتلال، إيتمار بن غفير، أنه قادر على إذلال الأسير القائد مروان البرغوثي وكسر إرادته، فإذا به — وبغباءٍ سياسي منقطع النظير — يمنح العالم بأسره صورةً مغايرة تمامًا لما أراده، صورةً لزعيم فلسطيني شامخ، يبتسم من قلب الزنزانة، وكأن الجدران لا تستطيع أن تحجب صوته ولا أن تحاصر معنوياته.
بن غفير، الذي لطالما احترف الخطاب العنصري والتحريض الدموي ضد الفلسطينيين، قرر أن يقتحم زنزانة البرغوثي ليهدده أمام الكاميرات ويستعرض سلطته في محاولة لكسر أحد أبرز رموز المقاومة الفلسطينية. لكن النتيجة كانت معاكسة تمامًا. فبدل أن يظهر البرغوثي ضعيفًا أو منهارًا، خرجت صورته أمام الرأي العام الفلسطيني والعالمي أكثر قوة وصلابة، بابتسامةٍ بدت وكأنها صفعة على وجه الاحتلال، وجرس إنذار في عقولهم بأن الأسرى ليسوا أرقامًا في قوائم الاعتقال، بل قادة يمتلكون روحًا عصية على الانكسار.
تلك الابتسامة لم تكن مجرّد تعبير عابر، بل كانت رسالة مركّبة: إلى الشعب الفلسطيني، بأنه بخير رغم الأسر، وأن معنوياته تعانق السماء؛ وإلى الاحتلال، بأن السجن لا يقتل الفكرة ولا يقمع الحلم؛ وإلى العالم، بأن القيد على المعصم أهون من القيد على الإرادة.
بن غفير، وهو يحاول إذلال البرغوثي، قدّم أكبر خدمة إعلامية وسياسية له منذ سنوات. لقد منح كل الأحرار، من فلسطين إلى أقاصي الأرض، فرصة لرؤية قائدهم في صحة جيدة ومعنويات عالية، وذكّر الجميع أن البرغوثي، رغم مرور أكثر من عقدين في الأسر، لا يزال رمزًا حيًا لفلسطين المقاومة. أما الاحتلال، فقد بدا في هذا المشهد ضعيفًا مرتبكًا، يطارد حتى ابتسامات الأسرى، ويخشى من تأثير صورة واحدة أكثر مما يخشى من خطابات السياسيين.
لقد أراد بن غفير أن يهزم البرغوثي داخل زنزانته، فإذا بالبرغوثي يهزمه أمام العالم من داخل الزنزانة نفسها. إنها مفارقة التاريخ، حيث تتحول الزنزانة إلى منبر، والقيود إلى أوسمة، والابتسامة إلى سلاح يقهر كل دعاية الاحتلال. وفي زمنٍ يلهث فيه قادة الاحتلال وراء استعراضات القوة، جاء هذا المشهد ليذكّرهم أن القوة الحقيقية هي تلك التي تولد من صمود المظلوم، لا من استعلاء الظالم.
البرغوثي، بابتسامته تلك، لم يكتفِ بكسر الصورة التي حاول الاحتلال رسمها، بل فجّر داخل قلوب الفلسطينيين شعلة أمل جديدة. فقد أعاد إلى الأذهان أن المقاومة ليست فقط بندقية أو حجرًا، بل هي أيضًا كلمة، ونظرة، وابتسامة قادرة على هز كيان الاحتلال من أساسه.
هذا المشهد سيبقى حاضرًا في ذاكرة كل فلسطيني، وكل حرّ في العالم، وسيُذكر دائمًا كمثال على أن إرادة الشعوب أقوى من السجون، وأن الزعيم الحقّ يظل زعيمًا حتى وهو خلف القضبان. أما بن غفير، فقد سجل في تاريخه أنه الوزير الذي ذهب ليهين أسيرًا، فعاد مهزومًا بابتسامة أسير.
مفيدة عياري
زر الذهاب إلى الأعلى