قال رئيس الوزراء الفرنسي الأسبق دومينيك دو فيلبان، في حوار خاص لاكسبراس أف أم، إنه في ظل عالم يسوده الاضطراب وعدم القدرة على التنبؤ وعدم الاستقرار وعولمة تتفكّك إلى مناطق نفوذ جغرافية كبرى، يجب على الأوروبيين والأفارقة والمغاربة والشرق الأوسط، الاستفادة من فرص القرب الجغرافي التي تجمعهم.
وبين أنه “علينا إرساء سياسة جوار تُمكّننا من الاستفادة من هذه الميزة الجغرافية، من خلال سلاسل قيمة تربطنا أكثر، ومزايا نسبية في عدد من الإنتاجات، وقدرة أفضل على التحكم في بعض الظواهر مثل الهجرة والتهريب، بما يضيف مزيدًا من الاستقرار في مواجهة هذا الاضطراب المتصاعد”.
يجب الخروج من المنطق القائم على علاقة الشمال بالجنوب
وقال: “لقد تراكمت خلال العقود الماضية حالات سوء فهم كثيرة بين أوروبا والمغرب العربي وإفريقيا، وعلينا إعادة إدخال الحوار والتفاهم”، مبينا أن الخطوة الأولى هي الخروج من المنطق القديم القائم على علاقة الشمال بالجنوب، والمساعدات التنموية، ورؤية غير متكافئة لعلاقات القوة، والدخول في عصر جديد قوامه المساواة والعلاقة الأخوية، وذلك من خلال إرساء سياسة جوار وبناء شراكات تجعلنا أقوى في عالم خطير”.
ودعا دوفيلبان أوروبا والمغرب العربي إلى العمل معًا من أجل تطوير منظومة إقليمية مشتركة، قائلا: ” إن البحر الأبيض المتوسط يمثل فرصة حقيقية، إذ ستمكّن هذه المنظومة من تطوير الأسواق بشكل مشترك، من خلال الاستفادة من كفاءات كل طرف”.
وقال: «انظروا إلى القفزة التكنولوجية الرائعة التي حققتها تونس في السنوات الأخيرة، يرافقها طلبة ذوو تكوين عال، ومؤسسات نجحت في ما يسمى بـ“المؤسسات الناشئة”، على غرار أنستاديب، التي نجحت في الانتقال إلى عصر جديد وتحقيق قفزة تكنولوجية مذهلة”.
وأضاف أنه يجب أيضًا أخذ المعطيات الديمغرافية، بعين الاعتبار، حيث أن إفريقيا ستضم أكثر من 2.5 مليار نسمة في 2050، وأكثر من 4 مليارات نسمة في 2100، ما يجعلها خزانًا هائلًا من القدرات والمواهب، مبينا أنه عندما يُمزج هذا النمو السكاني بالمعرفة التكنولوجية، يتشكل رصيدا ضخما من الإمكانات.
ولفت إلى أن الصين نجحت خلال عقود قليلة في تحقيق قفزة نوعية، كذلك الهند التي حققت تقدمًا كبيرًا في مجال تكنولوجيا المعلومات، معتبرًا أن الأمر نفسه ممكن في إفريقيا.
وأوضح أن هناك طموحًا ثلاثيًا لا غنى عنه في أي استراتيجية تعاون، يتمثل في متطلبات عالية المستوى، وبيئة مستقرة قدر الإمكان، وتقاسم القيم كما أن عصر الذكاء الاصطناعي يتيح التقدم بوتيرة أسرع بكثير.
زمن انكماش الاقتصادات على نفسها
واعتبر رئيس الوزراء الفرنسي الأسبق أن زمن التجارة الحرة والمنافسة الحرة، الذي كان يشكّل عقيدة الاتحاد الأوروبي، بات يبدو بعيدًا جدًا. فنحن نعيش اليوم زمن انكماش الاقتصادات على نفسها، حيث جسّدت إدارة ترامب ذلك من خلال الإكثار من الرسوم الجمركية لصالح اقتصادها، رغم أن ذلك قد يرتدّ سلبًا على الاقتصاد الأمريكي، مع خطر التضخم أو حتى الركود، خاصة في ظل الردّ الصيني.
وقال دو فيلبان: “بما أننا نعيش في عالم يتميز بعدم اليقين، يجب على أوروبا والمغرب العربي وإفريقيا التقدم معا لدخول هذا العالم الجديد بما أن لديهم مصلحة مشتركة”.
أحداث المتسارعة شهدها العالم
وعدّد دو فيلبان، الأحداث المتسارعة التي شهدها العالم خلال الثلاثين سنة الأخيرة، والتي اعتبر أنها السمة الأساسية لعالم اليوم، من ذلك التحوّل المهم مع الثورات المحافظة في الغرب عام 1979، وكذلك في الشرق مع الثورة الإيرانية، وفي عام 1989 سقوط جدار برلين، وفي 2001 وقع الصدمة في الولايات المتحدة، ثم تسارع الأحداث مع أفغانستان والعراق، وفي 2008 الأزمة المالية، ثم الربيع العربي في 2011، ثم العدوان الروسي على أوكرانيا في 2022، والحرب المأساوية في غزة سنة 2023″، هذا التسارع هو السمة الأساسية لعالم اليوم.
وأضاف أن تحولًا كبيرًا آخر حصل مع وصول دونالد ترامب إلى ولايته الثانية، وفرضه للرسوم الجمركية، وظهور رؤية جديدة للعالم من خلال الاستراتيجية الأمنية التي دافعت عنها الولايات المتحدة، وهي رؤية مختلفة جذريًا عمّا كان سائدًا سابقًا، مع رغبة في خفض التصعيد مع الصين، وتوجّه نحو فكّ الجليد مع روسيا، ونوع من الازدراء والقطيعة مع أوروبا، معتبرا أنه نظام يتغير بسرعة كبيرة، أو بالأحرى فوضى تتزايد باستمرار.
رسائل إلى بوتين وإفريقيا وتونس
وجّه دو فيلبان رسائل إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وإلى إفريقيا، وإلى تونس.
وقال: “أقول لبوتين: فلنتجنب نشوة القوة. هذا ما قلته لإدارة بوش حين أرادت التدخل في العراق، وهو ما أقوله اليوم لروسيا. الحرب ليست أبدًا الحل. ولا ينبغي دائمًا السعي إلى الذهاب بعيدًا جدًا. فالقوة تعني أيضًا إدراك الواجب تجاه الشعب. والشعب الروسي يعاني اقتصاديًا واجتماعيًا”.
وأضاف: “وأقول لإفريقيا: تجرّئي وتقدّمي. أنا الذي وُلدت في القارة الإفريقية، أفخر بجذوري. وأنا مقتنع بمستقبل إفريقيا، التي لديها الكثير لتعلّمه لنا ثقافيا، والمشاركة، والقدرة على الحوار”.
وختم بالقول: “لديّ مودة قديمة جدًا تجاه تونس. ومن حيث الحضارة، نحن مدينون بالكثير لقرطاج وقرونها المجيدة. هناك شيء يحدث اليوم في تونس، وهذه المغامرة هي أكثر من أي وقت مضى، مغامرة مشتركة بيننا”.
زر الذهاب إلى الأعلى